Wikipedia

نتائج البحث

الجمعة، 17 فبراير 2017

البرغوثي: إخوة مروان ألقوه بالجب.."السجن".. قيادات بالضفة تنتقد المركزية لاستبعاده

البرغوثي: إخوة مروان ألقوه بالجب.."السجن".. قيادات بالضفة تنتقد المركزية لاستبعاده
الأسير مروان البرغوثي
تاريخ النشر : 2017-02-16
 
خاص دنيا الوطن - محمود الفروخ
قال القيادي في حركة فتح، قدورة فارس تعقيباً على تجاهل اللجنة المركزية للقائد الأسير مروان البرغوثي: إن الهدف من اعتقال القائد مروان هو إبعاده عن ساحة الفعل والتأثير، ولكنه بما يمثل من فكر ثوري ومنهج حركي فتحاوي أصيل، ظل حاضراً وبقوة في وعي الشعب الفلسطيني، وليس أدل على ذلك من تصدره لكل استطلاعات الرأي منذ اعتقاله، وحتى اليوم.

وأضاف فارس لـ "دنيا الوطن"، أن البرغوثي يحظى باحترام واهتمام عربي وعالمي كبير، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في الحملة الدولية لإطلاق سراحه وكافة الأسرى، موضحاً أن هذه الحملة تضم في عضويتها قادة ومناضلين عظماء من القارات الست من بينهم خمسة من الحائزين على جائزة نوبل للسلام، ومنحُه مواطنة شرف في ثلاثين مدينة فرنسية، إضافة إلى إحدى المدن الإيطالية، في حين يتم تجاهله من قبل اللجنة المركزية في خطوة غير مفهومة و"مرفوضة" من قبل قطاعات واسعة من كوادر حركة فتح.

وأكد فارس أن مروان البرغوثي، الذي لم يتطلع يوماً للمواقع والمناصب سيواصل ومن سجنه ممارسة دوره كقائد ومناضل يحظى بمحبة واحترام أبناء شعبه، مؤمناً برسالته وبالقيم والمبادئ التي كانت عليها حركة فتح، متمسكاً بوعد حركته لشعبنا العظيم بإنجاز الحرية والاستقلال، ومؤكداً في الوقت ذاته، على عهده للشهداء والأسرى والجرحى، والمُبعدين بأن يواصل مسيرة الكفاح معهم حتى الحرية والاستقلال.

بدوره، عضو المجلس التشريعي عن حركة فتح،
وعضو المجلس الثوري، جمال حويل، من جنين قال لـ "دنيا الوطن": نحن نحترم قيادة حركة فتح واللجنة المركزية وقراراتها، ولكن كنا نتمنى ونتوقع أن يكون هناك موقع متقدم للأخ مروان البرغوثي لما يمثله من حالة نضالية مميزة، وما زال قابعاً خلف القضبان، وخاصة أن روح الحركة وصوتها تم التعبير عنه بالمؤتمر السابع وحصوله على أعلى الأصوات.

وأكد حويل، أن ما حصل نحترمه ولكنه شكل خيبة أمل عند مناضلي الحركة وأسراها وقواعدها، إن اختيار مروان في موقع متقدم هو رسالة لحركة فتح وروحها النضالية والديمقراطية ورسالة لأسرانا الأبطال بأنكم في القلب من الاهتمام، ورسالة للاحتلال "الصهيوني" بأن مروان الذي حاولتم إبعاده وعزله عن حركته وشعبه ما زال رقماً صعباً في مركز القرار، ولكن مروان الذي يحظى بأعلى شعبية والأكثر شهرة عالمياً، سيبقى من الأرقام الصعبة في معادلة الشعب الفلسطيني وخياراته الديمقراطية القادمة، ومروان البرغوثي رجل متفائل همه حرية شعبه وحرية الأسرى، وسيبقى رجل الميدان والفعل والرؤية ورجل الوحدة الوطنية ولا يهمه أي موقع أو منصب، ونتمنى التوفيق للحركة في قيادة شعبنا.

عضو المجلس الثوري لحركة فتح حافظ البرغوثي أكد في حديث خاص لـ "دنيا الوطن" أنه يبدو أن هناك من اختار الحل الوسط والمريح داخل اللجنة المركزية، وهو توزيع الملفات والمناصب مع تدويرها بشكل سنوي على أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، باعتباره الحل الأمثل لوقف النزاع المستعر بين أعضاء اللجنة المركزية على المناصب.

أما حافظ البرغوثي، فقال: "حتى لو لم يُطرح اسم مروان البرغوثي داخل الاجتماع لتولي أي منصب، فلن يحصل على أغلبية، لأن أغلب أعضاء اللجنة المركزية، متهافتون على المناصب ولا يريدون أن يتسلم أي أحد أي منصب بدلاً منهم.

وأوضح أن استثناء مروان، من أي منصب سيؤثر على الروح المعنوية والنضالية والثورية لأبناء وكوادر فتح، على اعتبار أن مروان نموذج يحتذى به، والتخلي عنه في هذه الظروف بمثابة هدية للإسرائيليين، أن افعلوا به ما شئتم، وهذا استفراد بمروان وتركه وحيداً.

وتابع البرغوثي: "كان يتوجب على اللجنة المركزية بعد توزيع المناصب، أن تصدر بياناً تطالب فيه بإخراج مروان من السجن، نظراً لأهميته ولتضحياته التي قدمها للشعب وللقضية ولفتح على وجه الخصوص، لكن ذلك لم يحدث، وكأن إخوة يوسف "مروان" ألقوا به في غياهب الجب.

بدوره، أكد القيادي في حركة فتح عبد الفتاح حمايل، لـ "دنيا الوطن"، أنه من الواضح أن السبب في استبعاد الأخ مروان البرغوثي، من توليه مسؤولية تنظيميه في إطار اللجنة المركزية، والذي حصل في انتخابات المؤتمر على أعلى الأصوات فيها، مرده ببساطه أن مروان يشكل الحالة الرمزية لطبيعة النضال الوطني المستند على حقيقة أننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني، وهذا يترتب عليه تغيير جذري في النهج القائم، والذي تمثله الحالة الفتحاوية الرسمية الراهنة، وبالتالي فإن التباين في الرؤية والنهج ما بين المفهومين جلي وواضح.

وذكر حمايل، أن ذلك "يعني بوضوح أن المرحلة ليست مرحلة مروان، ومن هم يلتقون معه في هذا النهج".

أما القيادي في حركة فتح، أمجد جبران، فقال: "مروان البرغوثي رافعة فتح الحقيقية، والتي تجلب الالتفاف الجماهيري من غير المؤطّرين حول فتح، بما يُعَزِّز قوتها ورياديتها للمشروع الوطني التحرري، وأنه واهم كل من يعتقد بنفسه من أعضاء اللجنة المركزية، أَنَّ بإمكانه تجاوز مكانة و رمزية وقوة وشعبية مروان البرغوثي، أو يرتقي لِيُدانيها، موضحاً أنّ (أبو القسّام) أكبر من أي منصب، ومكانة صندوق الاقتراع أعلى من أي مكان، وخيار إرادة الأحرار -الكامنة في صدور الأوفياء- ستُمَكنه مِن قيادة الشعب لبَر حُريّته وتحرير الوطن، على حد تعبيره.

وتابع: "من باب إحسان الظن في أعضاء اللجنة المركزية، فإن مركزية فتح خبّأت مروانها الأبيض ليوم انتخاباتها الأسود [مواجهة حماس في انتخابات الرئاسة] فمروان الوحيد القادر على الفوز بها والمؤهل لها".

ووصف جبران، استثناء مروان من مناصب المركزية، بالموقف البائس المتمثل في توزيع مهام اللجنة المركزية، دون الإشارة حتى إليه؛ وهذا يضع مروان البرغوثي موضِعاً أعلى من أي موضع كان من المحتمل أن يضعوه فيه


المزيد على دنيا الوطن .. http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2017/02/16/1019566.html#ixzz4YvtF8foT
Follow us: @alwatanvoice on Twitter | alwatanvoice on Facebook

الجمعة، 10 فبراير 2017

الحلقة الثانية.. أسطورة الفهد: "أبو حسن سلامة" حين يلقي مرساته

الحلقة الثانية.. أسطورة الفهد: "أبو حسن سلامة" حين يلقي مرساته
تاريخ النشر : 2017-02-09
 
دنيا الوطن- بقلم بكر أبو بكر
في حلقة ثانية من ضمن خمس حلقات، سنعرض لحياة ومسيرة الأسطورة الفلسطيني من قيادات حركة فتح أبوحسن سلامة.

علي حسن سلامة، هو بطل من أبطال فلسطين وأسطورة تحدٍ للموساد الإسرائيلي لا نظير لها، هو فارس من فرسان الفتح المبين، الذين مزجوا بين الجرأة المفرطة ووثبة الفهد والجسارة مع الإيمان بالشهادة، والانفتاح وعشق الوطن وهدوء النفس.

أبو حسن سلامة القائد الفلسطيني الشاب الذي عاش فترة عنفوان الثورة الفلسطينية في لبنان (حقبة السبعينات من القرن العشرين) امتاز بالذكاء الشديد والشجاعة والإقدام، والكرم مع رجاله، وكان فذّا في بناء العلاقات الاجتماعية مع المتفقين والمختلفين فنوّع في مستويات علاقاته، (وبالتالي في مصادر معلوماته الأمنية كرجل أمن) فلم تقتصر على الفلسطينيين بل تعدتها إلى اللبنانيين والأجانب ومنهم أوعبرهم تم فتح العلاقات مع أنصار فلسطين في أمريكا وتحديداً في الإدارة الأمريكية.

وفي الحلقة الأولى تعرضنا للبدايات للرجل وامتداداً لأبيه المناضل الكبير، وفي هذه الثانية ننتقل إلى جهاز الـ 17 والخروج من الأردن والعمليات الخارجية ضد إسرائيل.

الأمن الموحد وجهاز "الـ 17"، و"أيلول الأسود"

نجا الفارس ياسر عرفات من معارك الأردن بأعجوبة، وخرج مع أبو حسن سلامة بعباءات خليجية، وتحت مسؤولية الوفد العربي فوصل القاهرة، إلا أن صلاح خلف أخفق ومن معه في فك الحصار حولهم، وتم اعتقالهم ثم أطلق سراحهم لاحقاً، ليُحمّل هو وعدد من القيادات الأمنية مسؤولية ما حصل في الأردن، فتسلم أبو إياد مهمة أخرى في الفترة (1971-1973).    

وبعد استشهاد القادة الثلاثة عام 1973 (أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر) أعيد تشكيل الأجهزة الأمنية فنشأت حينها كل من:

1- جهاز الأمن الموحد بقيادة صلاح خلف، لتشمل مهمته الأمن في منظمة التحرير الفلسطينية.

2- جهاز الأمن المركزي بقيادة هايل عبد الحميد (أبو الهول).

3- جهاز الـ17 (أمن الرئاسة) على غرار الحرس الجمهوري في العراق أو سوريا وهو الجهاز الذي تسلمه أبو حسن سلامة، وكان نائبه الميداني أبو الطيب محمود الناطور.

سمي الجهاز بهذا الاسم الرمزي (أي جهاز الـ17) لسبب طريف أنه ارتبط بكشف أوائل المتفرغين في جهاز أمن الرئاسة، الذي قدموا مع محمود الناطور
(أبو الطيب) في رحلة الخروج من عمان إذ كانوا 17 أخاً (فأطلق عليهم كشف الـ 17)، وإضافة لاشتمال هاتف المقر على الرقم 17 .[1]

انتهت فعالية الجهاز الحقيقية مع الدخول للوطن عام 1994 ثم انتهى فعلياً في عهد الرئيس أبو مازن ليتم استبداله بجهاز مهني صرف تحت اسم الحرس الرئاسي تابع للأمن الوطني.

كانت مهمة جهاز الـ17 هي مهمة حراسة الرئيس أبو عمار، ومهمة إجراء الاتصالات مع القوى السياسية الخارجية خاصة الغربية أو المناوئة مثل الكتائب اللبنانية أو الأمريكان عدا عن المهمات الأمنية الخاصة إلى جوار العمل العسكري القتالي.

إذن تسلم أبو حسن سلامة (جهاز الـ17) بعد أن كان عمله المثير للجدل (1971 - 1973) في مهمة العمليات الخارجية أو العمليات الخاصة ضمن المسؤولية المرجحة لصلاح خلف (أبو إياد)[2] فكان كل من أبو حسن سلامة وأبو داوود (محمد داوود عودة) نائبين له، وهذه العمليات الخارجية الضخمة تحت اسم (منظمة أيلول الأسود) هي التي صنعت شهرة وقوة أبطال العمليات الخارجية، الذين كان أبرزهم البطل الفهد أبو حسن سلامة.

منظمة (أيلول الأسود) هي المنظمة المنسوبة لحركة فتح، والتي مارست ما أسمته حركة فتح "العنف الثوري" حيث قال فيها خالد الحسن معقباً على عملياتها المدوية (طالما يعيش الشعب الفلسطيني في حالة الظلم والتشرد...فمن الطبيعي قيام حركة من نوع "أيلول الأسود" تعبيرا ًعن مأساة هذا الشعب) ودون أن يتبناها كحركة فتح وفيها قال أيضا صلاح خلف (أبوإياد) حين يحرموننا حقنا الأساسي في القتال على أرضنا لإخراج الغاصب فمن الطبيعي أن نوسع ساحة القتال)[3]

العمليات الخارجية الصاعقة من إيطاليا إلى ألمانيا

تسلم صلاح خلف ونائبا له أبو حسن[4] – حسب أكثر المصادر – مسؤولية العمليات الخارجية (في حركة فتح) والتي أطلق عليها أيضاً اسم العنف الثوري أو (حرب الظلال) التي هدفت لإعادة لفت الأنظار للقضية الفلسطينية بعد الخروج من الأردن، ولمجابهة حرب المخابرات الإسرائيلية التي طالت الأدباء والشعراء والسياسيين، كما طالت القيادات الأمنية فكانت الثورة الفلسطينية بالمرصاد بعمليات نديّة أوقعت خسائر فادحة بالمصالح الإسرائيلية من جهة وبمحطات وقيادات وعملاء الموساد في أوروبا تحديداً.

لقد أشتعلت حرب المخابرات بين الثورة الفلسطينية و"الموساد" الإسرائيلي على امتداد العالم، وخاصة على ساحة لبنان وأوروبا فكانت عمليات الموساد ضد الأديب غسان كنفاني (1971) ومحاولة اغتيال أنيس الصايغ وبسام أو شريف المحفّز لحرب المواجهة الفلسطينية على ذات الصعيد، واغتيال محمود الهمشري في فرنسا عام 1972 وقبله وائل زعيتر في إيطاليا.

في حرب المخابرات الندّية المستعِرة اغتال جهاز العمليات الخارجية بقيادة أبو حسن سلامة سبعة عشر مسؤولاً أو قيادياً (أو محطة أو عميل للموساد) على امتداد ساحة أوروبا، وفي حرب الموساد ضد الثورة الفلسطينية التي كانت تنجح حيناً وتخفق أحياناً، أخفق الموساد في محاولات اغتيال أبو حسن سلامة لعشر مرات، وكان من فشلهم قتل المواطن المغربي (أحمد بوشيكي) [5] طناً أنه أبو حسن في النرويج، وحينها تم اعتقال المنفذين الإسرائيليين في فضيحة مدوية، رفعت من أسهم أبوحسن وأذلّت الموساد.

ويقول العميد ماهر شبايطة أمين سر حركة "فتح" وفصائل "م. ت. ف" في صيدا- لبنان في شهادته (كان الشهيد علي حسن سلامة واحداً من أعنف وأمهر مدبري اغتيالات قيادة الاحتلال، حيث أسندت إليه قيادة العمليات الخاصة ضد الاحتلال الإسرائيلي في شتى أنحاء العالم).

فشلت المخابرات (كمثال) في تجنيد أحد أقرباء صخر حبش، الذي رد الصاع صاعين بقتل ضابط التجنيد، وتُمثل عملية كنيسة (جلاروس) في سويسرا فشلاً ذريعاً إضافياً "للموساد" الذي اعتقد أن أبو حسن في لقاء داخل الكنيسة مع آخرين، فقتل الموساد خطأ ثلاثة أبرياء من حرس الكنيسة بلا جدوى.

يعتبر كتاب "مجتمع الاستخبارات الإسرائيلية" الصادر عام 2011 لكل من: "أهارون فركش" رئيس الاستخبارات آنذاك، و"دوف تماري" من أهم الكتب التي أزاحت الستار عن أسطورة الموساد فتعرضت لعديد العمليات الفاشلة في ظل استعار الحرب الخفية بين المخابرات الفلسطينية والموساد.

كانت عمليات تدمير خزانات النفط في "تريستا" إيطاليا من أشهر عمليات أبو حسن سلامة، كما كانت العمليات المنسوبة له ولمنظمة (أيلول الأسود) الغامضة في ألمانيا وهولندة ضد مخازن شركة الغاز (إسّو) وتلك التي دمرت مصانع لبناء محركات الطائرات الإسرائيلية في هامبورغ– ألمانيا نماذج صاعقة من نماذج الحرب ضد المصالح الإسرائيلية في كل مكان، وهي التي صنعت وغيرها شهرة "أيلول الأسود" وسجلت دوياً عالمياً.

[1] أبوالطيب (اللواء محمود الناطور)، (حركة فتح بين المقاومة والاغتيالات) بجزئيه التي غطت السنوات (1965-1994)، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2014 ص293

[2]  لا يشير صلاح خلف في كتابه "فلسطيني بلا هوية" لمسؤوليته المباشرة أو إشرافه على  العمليات الخارجية الصاعقة التي قامت بها "منظمة أيلول الأسود"، فيما يشير أبوالطيب محمود الناطور إلى أنه وأبوحسن التقيا عضو اللجنة المركزية لحركة فتح المكلف بالإشراف على العمليات الخارجية عام 1971 دون إشارة لاسمه في كتابه (حركة فتح بين المقاومة والاغتيالات) ص 290.

 يزيد صايغ، مصدر سابق، ص 451 وص 453[3]

[4]  تشير المصادر في حركة فتح لدور كل من أبو يوسف النجار في العمليات، كما تشير لدور كمال عدوان الكبير في العمليات التابعة للقطاع الغربي (الأرض المحتلة).

[5]  يذكر في مصادر أخرى تحت اسم (أحمد بوشيخة)

[6]  موقع فلسطيننا التابع لحركة فتح في لبنان العدد 23/1/2015

[7]  الشهيد الأديب والمفكر صخر حبش عضو المجلس الثوري، ثم أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح فعضو اللجنة المركزية مسؤول الفكر والدراسات.

[8] تشير كثير من المصادر المتداولة إلى الآتي: من العمليات التي تسند إليه و لرجاله قتل ضابط الموساد (زودامك أوفير) في بروكسل، وإرسال الطرود الناسفة من أمستردام إلى العديد من عملاء الموساد في العواصم الأوروبية، رداً على حملة قام بها الموساد ضد قياديين فلسطينيين، ومن الذين قتلوا بهذه الطرود ضابط الموساد في لندن (أمير شيشوري). 

كما يشار إلى تصفية مسؤول الموساد في مدريد (باروخ كوهين)، واغتيال ضابط المخابرات الإسرائيلية (موشيه جولان).



الحلقة الأولى.. أسطورة الفهد: "أبو حسن سلامة" حين يلقي مرساته

الحلقة الأولى.. أسطورة الفهد: "أبو حسن سلامة" حين يلقي مرساته
تاريخ النشر : 2017-01-26
 
رام الله - دنيا الوطن
بقلم: بكر أبو بكر

في خمس حلقات سنعرض لحياة ومسيرة الأسطورة الفلسطيني من قيادات حركة فتح أبوحسن سلامة.

أبو حسن (علي حسن سلامة) هو بطل من أبطال فلسطين وأسطورة تحدٍ لا نظير لها للموساد الإسرائيلي، هو فارس من فرسان الفتح المبين الذين مزجوا بين الجرأة المفرطة ووثبة الفهد والجسارة مع الإيمان بالشهادة، والانفتاح وعشق الوطن وهدوء النفس.

أبو حسن سلامة القائد الفلسطيني الشاب الذي عاش فترة عنفوان الثورة الفلسطينية في لبنان (حقبة السبعينات من القرن العشرين) امتاز بالذكاء الشديد والشجاعة والإقدام، والكرم مع رجاله، وكان فذّا في بناء العلاقات الاجتماعية مع المتفقين والمختلفين فنوّع في مستويات علاقاته (وبالتالي في مصادر معلوماته الأمنية كرجل أمن) فلم تقتصر على الفلسطينيين بل تعدتها إلى اللبنانيين والأجانب ومنهم أوعبرهم تم فتح العلاقات مع أنصار فلسطين في أمريكا وتحديداً في الإدارة الأمريكية.

وفي الحلقة الأولى سنتعرض للبدايات للرجل وامتداداً لأبيه المناضل الكبير

بدايات أبوحسن ومميزاته 

تلقى أبو حسن سلامة (المولود عام 1941 في العراق) أولى دوراته الأمنية في القاهرة عام 1968 عندما اختاره الشهيد القائد صلاح خلف مع زملاء له لهذه الدورة التي شكلت البدايات لجهاز "الرصد المركزي"، ولم يكن هذا غريباً على أمثال أبو حسن سلامة الذي اتسم بالشجاعة والقوة كما ذكرنا مع ما اجتمع له من بناء جسدي متميز، إذ كان لاعب كراتيه تحصّل على الحزام الأسود، واستمر في هذا المسار مع مهماته الأمنية الدقيقة في تقاطع شكّل شخصيته الجذابة المتسقة مع أناقته تلك التي فاقت أقرانه أو جلبت حسدهم. 

أبو حسن سلامة المحبّ للحياة وللطبيعة والجبل والبحر، نعم، هو من كان بطل الحرب السرية ضد الموساد وضد المصالح (الصهيونية) في أوروبا، وما كان دموياً أو إرهابياً كما حاولت الدعاية (الصهيونية) أن تصفه زوراً، فالعاشق لفلسطين وللشهادة والعطاء كان الأحرص على الدم حتى وهو ينفذ العمليات الصعبة ضد المصالح (الصهيونية)، أو ضد المناوئين للثورة فلم يكن القتل هو الهدف مطلقاً بل أن تصل الرسالة ... أن لنا وطن وسيكون لنا دولة.

إن أردنا تلخيص صفاته ومميزاته الأساسية مما سبق فلنا أن نجملها بالتالي: أنه كان محباً للحياة ما جعل بناء العلاقات لديه قدرة، وكان جريئاً جسوراً ذكياً استمد ذلك من سيرة والده البطل حسن سلامة ومن طريقة تنشئته الصارمة على التضحية والفداء، حيث لم تمل أمه من تذكيره بأبيه وسيرته، ومن صحبته للعملاق ياسر عرفات، وكان عاشقاً لفلسطين متأهباً للشهادة التي استقبلها بصدر رحب.

من الممكن أن نشبه الشهيد البطل أبوحسن سلامة بالفهد لما يتقاربان فيه من مواصفات "فالفهد أسرع الثدييات عدوًا، سريع الاستجابة البدنية، حيث يمتلك جسدًا طويلاً رشيقًا انسيابيًا، ويتصف الفهد بجسم قوي مهيأ للمطاردة، كما الحال مع الفدائي والمناضل كأبي حسن، وهو ذكي ومخادع يمارس الصيد ليلاً ونهاراً تماماً كعمل رجل الأمن، وله فكّان صلبان وأسنان ومخالب حادة، ويعتبر من أكثر الحيوانات مهارة في الصيد ويكسو جسمه فراء سميك تختلف ألونه باختلاف البيئة التي ينتمي إليها، وكما هو الحال في القطط الكبيرة، وهو يحب الاجتماع وبناء العلاقات". 

الولد سر أبيه

والده الشهيد البطل حسن سلامة (1913 - 1948 م) ولد في قرية قولية غير البعيدة عن رام الله، وهي القرية التي تعد آنذاك من قضاء اللد، لواء يافا، البطل حسن سلامة أو الشيخ حسن سلامة كما أصبح يلقب لاحقاً كان منذ شبابه المبكر قد شارك في أعمال الثورة والمقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي والإسرائيلي، فقام بالعديد من العمليات النوعية التي ألهمت أجيالاً من بعده ومنهم ابنه علي (أبو حسن) كما يتضح من مسيرته.     

كان من عمليات الوالد نسف خطوط السكك الحديدية في فلسطين، وتدمير أعمدة الكهرباء وتدمير خطوط المواصلات التي يستخدمها الاستعمار البريطاني و(الصهاينة)، وإحراق البيارات التابعة للمستعمرات الإسرائيلية في فلسطين، ونسف قطار اللد– حيفا.

شارك كقيادي في ثورة (1936-1939)، وبعد نداء الملوك العرب بوقف الثورة غادر إلى لبنان وسوريا ثم العراق (حيث ولد علي هناك عام 1941) ملتحقاً بالكلية العسكرية، وفي العراق استمر الأب في حراكه الثوري، حيث شارك وقاد فصيلاً من المناضلين الفلسطينيين في الثورة ضد الإنجليز.

وفي عام 1943 عاد إلى فلسطين ليواصل نضاله فطورد في جبال القدس، فانتقل إلى سورية، ثم عاد إلى فلسطين مرة أخرى بعد صدور قرار التقسيم المشؤوم في تشرين الثاني 1947 وأسندت إليه قيادة القطاع الغربي من المنطقة الوسطى ثم منطقة القدس، بعد استشهاد القائد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل.

خطط وقاد عدداً من المعارك الناجحة، وأصيب في رئته اليسرى في معركة رأس العين شمال غرب القدس أثناء قيادته هجوماً مضاداً كاسحاً على مراكز العصابات الإسرائيلية في 31-5-1948، ونقل إلى المستشفى واستمر رجاله يقاتلون الأعداء بحماسة حتى طردوهم من رأس العين، استشهد القائد حسن سلامة يوم 2-6-1948 بعد أن علم بانتصار رجاله واندحار الأعداء عن رأس العين.

تأثرت حياة أبو حسن سلامة بوالده إذ يقول زميله ونائبه حينها محمود الناطور (أبو الطيب) (اللواء حاليا)، (عشقت روح أبو حسن النضال إرثاً عن والده الشيخ حسن سلامة)، كما كان الرجل مبهوراً بجاذبية وبتقشف ياسر عرفات منذ عرفه في الأردن، فتأثر به كثيراً (وهو يرى سعادته حينما يتحقق نصر سياسي أو عسكري ، وحينما يخرج عملاقاً من المآزق التي طالما ألمت بالثورة فرحاً معتزاً).

لم تألُ والدة أبو حسن جهداً في تذكيره أنه ابن أبيه المناضل والثائر والبطل والشهيد فدخل العمل الثوري مبكراً عام 1964 وذلك في الكويت حيث التحق بحركة التحرير الوطني الفلسطيني– فتح على يد القائد والمفكر خالد الحسن (أبو السعيد)، وكان أبوحسن حينها يعمل في إطار مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالكويت في دائرة التنظيم الشعبي.

من التنظيم إلى الأمن

من التنظيم الشعبي إلى العمل الأمني كانت النقلة الكبيرة في حياة أبو حسن عندما اختاره الشهيد القائد صلاح خلف (أبواياد) أحد عمالقة العمل الأمني الفلسطيني عضواً في الدورة الأمنية الأولى في القاهرة، والتي أسست لقيادات (جهاز الرصد الثوري)[3] (3) الذي أنشئ في الأردن بعد معركة الكرامة فكان أبو حسن نائباً لصلاح خلف (أو بالأحرى مساعداً له لأن هاني الحسن كان هو النائب لصلاح خلف).

استطاع جهاز (الرصد الثوري) أن يحقق مجموعة من الإنجازات في الفترة التي عمل فيها (1968 – 1971) من ضمنها:

1- مهام الاستقطاب والتجنيد للثورة الفلسطينية ولجهاز الأمن.

2- اختراق العملاء واختراق أجهزة الاستخبارات الأخرى لاسيما أنه بعد انتصارات الثورة الفلسطينية وعملياتها العسكرية المتنامية حصل التدافع المحموم من الجماهير الفلسطينية والعربية لتنضم للثورة مع ما يعني ذلك من إمكانيات استخبارية هائلة داخلية ومضادة.

 3- قام جهاز الرصد الثوري بوقاية الثورة الفلسطينية من الاختراقات والمؤامرات على الثورة.

 كما انشغل الجهاز 4- بفرز التقارير الكيدية وتصفية بعض الجماعات والمنظمات العميلة التي نشأت على هامش الثورة.

 5- كما قام الجهاز بتحقيق علاقات هامة مع الفصائل الفلسطينية التي تنامت آنذاك بشكل مثير.

 لقد واكبت نشأة جهاز الرصد الثوري العلاقة مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي انفتح على حركة فتح والثورة الفلسطينية منذ أواخر العام 1967 [6]  (6) أي بعد النكسة، وعمل أبو حسن في الجهاز في الأردن وكان قريباً من صلاح خلف ومن الرمز ياسر عرفات إذ استطاع في خضم الأحداث المؤلمة للعام 1970 أن يؤمّن لياسر عرفات طرق التنقل الآمن بين الحواجز وكمائن الجيش وساحات الاشتباك الدائر بين الأخوة فيصل سالماً إلى قرب السفارة المصرية في عمان، ثم الوصول إلى مطار ماركا في عمان عبر التمويه المتقن والتخفي. 

كان أبو حسن أحد التسعة المحظوظين والناجين من الذين تواجدوا حول أبو عمار حيث كانوا 50 مناضلاً شرساً لقوا وجه ربهم دفاعاً عن مواقعهم وقائدهم.

خرجت الثورة عملياً من الأردن لسبب تقاطعات الثورة والدولة والسياسة والاستغلال السياسي، ونتيجة تعارض المواقف حول المشاريع السياسية المطروحة آنذاك، ودخول السلاح بشكل مضطرد، فكانت لبنان منذ العام (1970 – 1983) هي محطة ومقر القيادة الفلسطينية التالية.

الحواشي

1- لمراجعة موقع (وفا) عن الشهيد حسن سلامة. 

2- تشكلت المجموعة الأولى من: أبو حسن سلامة، ومحمد عودة (أبو داوود) ومهدى بسيسو(أبو علي) وفريد  الدجاني (أبو رجائي) وسفيان الأغا (أبو مجيد) وفخري العمرى. 

3- يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2002 ص 377. 

 4- من ورقة للواء محمود الناطور (أبوالطيب) عن الأجهزة الأمنية. 

5-  قام الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل بترتيب اللقاء الهام الذي أنهى حالة التشكك للرئيس عبد الناصر مع حركة فتح.



الأربعاء، 1 فبراير 2017


الجبهة الشعبية والعمليات الخارجية

السبت 5 آذار (مارس) 2016
 مقدمة :
منذ الثالث والعشرين من شهر تموز عام 1968 ، وهو اليوم الذي تم فيه بدء تنفيذ أول عملية عسكرية للجبهة الشعبية ضد أهدف العدو الاسرائيلي خارج الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة ، وذلك السيطرة على طائرة شركة العال “بوينغ” 707 من مطار روما وتغيير اتجاهها على مطار الجزائر مروراً بعمليتي الهجوم على طائرة العال في مطاري أثينا وزيورخ إلى عمليات العبوات الناسفة والحارقة في محلات ماركس وستبنسر ومخزن مؤسسة سيلفر ريدجرز الصهيونية إلى وضع عبوة ناسفة في مكتب شركة الملاحة الاسرائيلية “زيم” في لندن إلى عملية الاستيلاء على الطائرة الأمريكية التابعة لشركة T.W.A من مطار روما وإرغامها على الهبوط في مطار دمشق وتدمير مقدمتها , وثم عمليات الهجوم بالقنابل على سفارتين اسرائيليتين في كل من بون ولاهاي وعملية الهجوم على مكتب شركة العال في بروكسل , أثارت وما زالت تثير تساؤلات كثيرة وولدت ردود فعل متفاوتة عند الكثيرين .
واحتلت أخبار هذه العمليات عناوين بارزة في الصحافة المحلية والعربية والعالمية ، وما تبع كل عملية من تعليق تتفاوت درجات التقييم فيه بين تأييد كامل إلى تأييد متحفظ قادر على فهم دوافع هذه العمليات ولكنه يخشى من بعض نتائجها.
وللإجابة على ذلك لا بد أولاً من تحديد طبيعة العدو الذي نجابهه وممن يتكون ، وهنا وقبل كل شيء لا بد من تحديد العدو الذي نحاربه ، فمن خلاله معرفة العدو نستطيع ضربه ضربات موجعة مدمية في أي موقع من مواقعه بغض النظر أين يكون هذا الموقع من الناحية الجغرافية .
وطبيعي أن تركز حروب التحرير على ضرب مجالات العدو الإستراتيجية الحيوية،لكن من الأهمية بمكان ضرب المجالات التي أوجدت هذا العدو في هذا الموقع الذي هو فيه الآن والتي ما زالت بمثابة المعين الذي لا ينضب تمده بكل مقومات الحياة لكي يبقى وينمو .
 من هم أعداؤنا ؟
من الأمور الأساسية لأي ثورة ناجحة أن تتسلح بالرؤية الثورية الواضحة ، ومن أولويات هذه الأمور تقييم الخصم وتحديد أبعاده ومعرفة حقيقته معرفة تامة ، لأن طبيعة العدو تحدد طبيعة المواجهة ، إذن لا بد من النظرة العلمية العميقة الى معسكر الخصم وخصائصه.
فمعسكر الخصم ليس إسرائيل وحدها وإنما هو إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية والامبريالية العالمية والرجعية العربية.
فإسرائيل في حقيقتها ما هي إلا الوجود الملموس للصهيونية وثمرة لجهدها ، وتستند إلى قوتها وتتمتع بمزايا انتشارها في أجزاء متفرقة من أنحاء العالم ، وما لها من نفوذ مالي وسياسي و إعلامي لا تبخل في استغلاله واستخدامه في مساندة إسرائيل بل تسخر الصهيونية طاقاتها في كافة المجالات فتمدها بكل مقومات الحياة.
والصهيونية العالمية بطبيعتها لها علاقات متداخلة ومصالح متشابكة مع الامبريالية العالمية ، والأخيرة لها نفس العلاقات والمنافع مع إسرائيل ككيان صهيوني يتربع في قلب الوطن العربي ويلعب بحكم العلاقات النفعية المتبادلة دور الدرك لمصالح الامبريالية في الوطن العربي .
إن الامبريالية العالمية بمساندتها لإسرائيل وحمايتها لها والمحافظة على وجودها هو أمر أساسي بالنسبة لمصالح الامبريالية العالمية الضخمة في الوطن العربي المتمثلة في استغلال ونهب الثروات ، يفرض عليها أن تحافظ على هذه المصالح من خلال إسرائيل وبواسطتها لمحاربة أي تحرك ثوري قد يهدد مصير وجودها المتمثل بالاحتكارات ... أي أن هنالك تلاحم عضوي بين إسرائيل والحركة الصهيونية من جهة وبينها وبين الامبريالية العالمية من جهة ثانية . فالامبريالية تعني المزيد من السلاح والدعم والمال لإسرائيل ، أي أنها تعني طائرات “الفانتوم” وأسرار القنبلة الذرية لإسرائيل وبناء الاقتصاد نتيجة تدفق بلايين الدولارات والماركات على إسرائيل. ومن ناحية أخرى فإن الرجعية العربية في أية معركة تحريرية حقيقية تخوضها الجماهير للقضاء على نفوذ الامبريالية في الوطن العربي لا يمكن أن تكون إلا إلى جانب مصالحها المتوقف استمرارها على بقاء الامبريالية , ومهما بلغت تناقضات الرجعية العربية مع اسرائيل والامبريالية فإنها تدرك دائماً أن تناقضها الأساسي هو مع حركة الجماهير التي تستهدف القضاء التام على مصالحها وسلطتها .
 الجهود المشتركة بين الصهيونية العالمية والامبريالية لإقامة اسرائيل .
إننا هنا لن نعالج تفصيلاً دور الصهيونية العالمية التي تعاونت مع الاستعمار والامبريالية العالمية في غرس اسرائيل في فلسطين ومدها بكل عون ومساندة من أجل بقائها لتلعب دور الحارس الأمين للمصالح الامبريالية في استغلال ثروات المنطقة العربية وعلى الأخص البترول العربي شريان حياتها ، وإعادة استثمار رؤوس الأموال المتراكمة من الأرباح الطائلة التي حققتها نتيجة هذا الاستغلال ، لا عن طريق إنشاء الصناعات والمشروعات الإنتاجية بل عن طريق جعل المنطقة سوقاً استهلاكية لمنتوجاتها وبضائعها وتحقيق تراكم رأسمالي جديد عن طريق الأرباح وإعادة الاستثمار .
إن الخوض في مثل هذه التفاصيل قد يخرجنا عن صلب الموضوع الذي نحن بصدده وفي هذه الحالة لابد من تسجيل مجموعة حقائق أصبحت تشكل بديهيات أساسية عن القضية الفلسطينية وهي :
1- قامت الحكومة البريطانية عبر انتدابها على فلسطين دون شرعية أو حق قانوني بتسهيل إقامة الكيان الصهيوني على حساب شعب فلسطين صاحب الحق والأرض والذي حرم من حقه ومن أرضه بطرده من وطنه.
2- لعبت الحكومة الأمريكية دوراً رئيسياً في أواسط الأربعينات وفيما بعد بإنشاء الكيان الصهيوني المتمثل بقيام اسرائيل ، وتعاونت كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية مع غيرها من الدول الغربية الأخرى في تثبيت اسرائيل ودعمها ومساندتها بشكل مطلق منذ عام 1948 وحتى الآن ولن تتوقف .
3- نتج عن قيام اسرائيل ودعمها وتوسعها الإقليمي في الأعوام 1948 – 1956 – 1967 تشريد ما يزيد عن مليون ونصف المليون عربي فلسطيني. كل ذلك كان نتيجة الجهود التي قامت بها المنظمة الصهيونية العالمية المنتشرة فروعها في جميع أنحاء العالم ، وعن طريق الدعم المستمر من الدول الامبريالية المتمثلة في حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الغربية وغيرها .
4- إن المنظمة الصهيونية العالمية بكل مؤسساتها وفي شتى المجالات وفي جميع أنحاء العالم،هي امتداد عضوي لدولة اسرائيل وهي في الوقت نفسه نقاط التقاطع بين المصالح الامبريالية من جهة والمصالح الاسرائيلية من جهة أخرى , وقدمت هذه المنظمة الصهيونية مساعدات بشرية وعسكرية ومالية وسياسية ودعاوية كانت بمثابة دم يومي جديد صب في شرايين الكيان الاسرئيلي المقام في فلسطين
على ضوء العرض السابق من تحديد العدو وتسجيل مجموعة الحقائق البديهية الموجزة لدور الصهيونية العالمية والامبريالية العالمية ، وتشابك المصالح المشتركة لكل هذه القوى والتقاء هذه القوى والمصالح مع القاسم المشترك المتمثل في الوجود الاسرئيلي على حساب مصلحة الشعب العربي الفلسطيني في وطنه ، وطالما أن الحركة الصهيونية بمساعدة الامبريالية العالمية لا زالت تشهر على عرب فلسطين حرباً معلنة في كثير من الحالات وغير معلنة في حالات أخرى في بقاع جغرافية متفرقة في جميع أنحاء العالم ، وذلك عبر المساعدات المختلفة في كافة المجالات للإبقاء على اسرائيل وللإبقاء على الظلم والأذى الواقعين على شعب فلسطين ، فإن من حق الشعب الفلسطيني أن يواجه هذه الحرب العدوانية بإستراتيجية عسكرية ، تكفل له ضرب العدو وقواه غير الخفية وامتداداته الطبيعية أينما كانت ليتمكن من تحقيق النصر .
فإنه لأمر طبيعي جداً أن يحرك الشعب الفلسطيني مقاتليه في داخل المناطق المحتلة ويركز ضرباته على أهداف العدو ومجالاته الحيوية ومقاتلة المحتلين الاسرائيليين .
وإنه لأمر طبيعي أن يحرك شعب فلسطين وحداته المقاتلة من خارج المناطق المحتلة للدخول إلى وطنه المحتل وملاقاة أعدائه وضربهم , لأن الشعب الفلسطيني ليس مسؤولاً عن نزوحه ووجوده في مناطق خارج وطنه ، وإنه لأمر طبيعي جداً أيضاً أن يحرك شعب فلسطين فدائييه إلى أي بلد أينما كان لمواجهة امتدادات اسرائيل خارج فلسطين المحتلة وشن حرب في الخارج للرد على الحرب التي تشنها عليه عبر مؤسساتها الصهيونية من مواقعها المتعددة في الخارج , وإنه لمن الطبيعي كذلك أن تجسد حركة المقاومة الفلسطينية شعار محاربة الامبريالية وضرب مصالحها داخل الوطن العربي ، المتمثلة أساساً باحتكاراته البترولية التي تتحول على أرباح طائلة على حساب الكادحين من أبناء الشعب العربي المستغلين (بفتح الغين) ويعود جزءاً كبيراً من هذه الأرباح لصنع النابالم ليحرق أطفال وشيوخ ونساء شعبنا الفلسطيني والعربي.
ومثلما أن الجغرافيا قضية غير مهمة في الحرب الشاملة ، التي يشنها الاستعمار وإسرائيل والصهيونية على شعب فلسطين والأمة العربية ، فإن الجغرافيا يجب أن تكون قضية غير مهمة في الحرب الشاملة التي يقوم بها شعب فلسطين لمواجهته الحرب العدوانية الموجهة ضده.والمسألة ليست داخل المناطق المحتلة أو خارجها .
فلا أسيوط أو السويس أو بور سعيد ( ج ، ع ، م ) في مناطق “داخل المناطق المحتلة” ولا ميسلون أو دمشق ( ج ، ع ، س ) “داخل المناطق المحتلة” وأيضاً ليس مطار بيروت أو قرية راشيا الفخار أو قرية عيترون “لبنان” هي مناطق داخل المناطق المحتلة.
مما لاشك فيه ومما لا يمكن اللف من حوله أو تجاهله هو أن هذه العمليات ولدت ردود فعل متفاوتة وأثارت جدلاً طويلاً ومكثفاً لازال بالإمكان إحساسه وسماع ضجيجه ومتابعة الأخذ والعطاء فيه .
بين اتجاه أعلن تأييده الشامل والمطلق لهذه العمليات وطالب بأكثر منها ، واتجاه صرح بتأييده المتحفظ المتراوح بين درجتي القادر على فهم دوافع هذه العمليات أولاً , والتحاشي من بعض نتائجها ثانياً , واتجاه معارض يتفاوت بين أؤلئك الذين يفهمون الدوافع ويرفضون الأسلوب وأولئك الذين لا يفهمون ولا يريدون فهم الدوافع ، وهم بالتالي يرفضون هذه العمليات ويطالبون بوقفها وحتى معاقبة الفدائيين الذين ينفذونها . وبالحقيقة فإن هذا التباين في ردود الفعل من أدناه إلى أقصاه ، هو تباين طبيعي وهو لذلك متوقع , بل الغريب أن لا يكون هناك مثل هذه الردود فهو الأمر غير الطبيعي والأمر غير المتوقع.
وعلى أية حال فأين هو الإجماع الدولي المؤيد كلياً أو المعارض كلياً لأية قضية هامة أو هامشية من القضايا التي تحدث على المسرح العالمي ؟
وأكثر من ذلك ، أين هو الإجماع الدولي المؤيد كلياً أو المعارض كلياً لأسلوب الكفاح المسلح الذي تبناه شعب فلسطين أو أي شعب مقهور آخر ؟ ثم أين هو الإجماع الدولي المؤيد كلياً ، أو المعارض كلياً لعمليات الفدائيين الفلسطينيين داخل المنطقة المحتلة.
وأما ما يثار عن أن مثل هذه الضربات ستؤدي إلى رد فعل إسرائيلي ، ستكون نتيجته ضربات توجه إلى الطائرات العربية أو مكاتب السفر العربية أو السفارات العربية فأمر يحتاج إلى حديث طويل،إذ أية طائرة عربية تلك أو أي مكتب سفر ذاك أو أية سفارة عربية تلك التي يمكن أن تكون أهم من أبناء بورسعيد أو ميسلون أو السلط أو عيترون الذين تلقى عليهم بين آونة وأخرى قنابل النابالم ؟
وأي مكتب سفر ذاك أو أية سفارة تلك الأهم من قصف الطائرات أو المدافع الإسرائيلية للمنشآت المدنية والاقتصادية في “ج.ع.م” أو لبنان أو الأردن أو سوريا ؟
وأما ما يقال عن أن مثل هذه الضربات تؤذي سمعة الثورة الفلسطينية ، تستعدي الرأي العام الأوروبي أو الأميركي فإنه قول لا قيمة له ، إذ منذ متى هذا الحرص على رأي العالم الغربي الذي أدار طوال سنين وسنين أذناً صماء لكل القرارات الدولية التي اتخذت لصالح الحق العربي في فلسطين،ومنذ متى نظر العالم الغربي إلى الثورة الفلسطينية نظرة الاحترام والإكبار؟
إن ضربات مثل هذه ضربات الجبهة الشعبية هي الإعلام الثوري الذي نجح في نزع الشمع عن الآذان الغربية التي لم تسمع في الماضي،ومسح القذى عن العيون الأوروبية التي لم تستطع أن ترى الحقيقة في السابق.
وهذا هو بالذات التفسير الوحيد الكامن وراء ظهور مقالات مثل مقالات “أرنولد توينبي” المؤرخ البريطاني العالمي ، أو لجان عفوية شكلت طوعاً لدعم الجبهة الشعبية وقضية العرب في فلسطين ، كما حصل في إيطاليا وسويسرا والسويد وباكستان أو برقيات ورسائل التأييد التي وردت من أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وغيرهما ، ويكفي أن ذلك الجزء من الرأي العام العالمي الذي غطته الدعاية الامبريالية والصهيونية برداء الجهل طوال مدة طويلة ، بدأ يتساءل أسئلة من نوع :
لماذا يموت شاب مثل عبد المحسن حسن على ثلوج مطار زيورخ ؟ . أو لماذا تعرض فتاة مثل أمينة دحبور نفسها للموت أو الاعتقال في سجون سويسرا ؟ . أو لماذا يعرض ماهر اليماني ومحمود عيسى نفسيهما للموت أو السجن في معتقلات اليونان ؟ . أو لماذا تخاطر ليلى خالد وسليم عيساوي بحياتهما في عملية جريئة مثل عملية الاستيلاء على الطائرة الأمريكية التابعة لشركة الخطوط الجوية العالمية وتدميرها ؟ وأخيراً وليس آخراً لماذا يشتري شبل مثل خالد أو طلعت أو وائل أو عادل ..الموت أو السجن في أكثر من مدينة أوروبية .
والأمور تقاس عادة بنتائجها , إن ضربة واحدة من هذه الضربات ، كانت أشد فعلاً وأبعد أثراً من مكاتب إعلام أو ملحقين ثقافيين أو صحفيين ، أنفقوا أموالاً وجهوداً كان يمكن لو وضعت في خدمة الثورة الفلسطينية لكانت الثورة نمت وتصاعدت وأفادت على الصعيد الإعلامي أكثر .
وأما القول بأن مثل هذه الضربات أدت أو ستؤدي إلى استنفار أو استعداء أمريكا أو ألمانيا أو بريطانيا أو غيرها فإنه قول يبلغ قمة المهزلة ، إنه قول يلغي ببساطة ساذجة تاريخاً كاملاً عن معاناة شعب فلسطين والأمة العربية من قبل هذه الدول إنه “حجة” تدعو إلى قيام “غزل” لا يختلف عن الدعوة إلى قيام غزل بين زوج يقف على قبر زوجته التي لم يكد يواريها التراب .
إذ أن الحديث عن علاقات يمكن أن تقوم بين أي شعب وبين مضطهديه الامبرياليين هو نوع من أحلام دفنتها الشعوب منذ مدة وتابعت سيرها على طريق الثورة والحرية .
إن السؤال الذي يجب أن يسأل هو : ما هو الشيء الذي لم تقدمه هذه الدول الاستعمارية لإسرائيل بعد؟ وما هو الدليل الذي لا زال البعض بحاجة إليه ليثبت لهم عداء الدول الاستعمارية المستعمرة لنا ولقضايانا .
وأما القول بأن التجربة الفلسطينية هي الوحيدة التي اختطت لنفسها هذا الخط من أسلوب المقاومة في ضرب امتدادات العدو خارج مجاله فإن هذا غير صحيح , وحتى لو كان الأمر كذلك افتراضاً فإن الخط يتمشى بمنطق لا مثيل له مع طبيعة العدو الصهيوني الملتحم مع الإمبريالية ويرد على خصوصية تلك الطبيعة ومع ذلك فإن المقاومة المسلحة والثورات التحريرية عرفت مثل هذا النوع من النشاط “الضرب في الخارج” أثناء تجاربها الطويلة.
فالثورة الجزائرية ضربت أكثر من مرة داخل باريس ذاتها ، وأما القول أن العالم لم يسمع عن ثورة تقاتل خارج أرضها ، كما قيل تضليلاً مرة فإن العالم أيضاً لم يسمع عن دولة أسست من خارج الأرض التي استعمرتها وطردت شعبها وأسكنت أناساً غرباء فيها .
فإذا كانت اسرائيل هي التجسيد المادي للأفكار الصهيونية فما الذي يمنع من ضرب المؤسسات الصهيونية التي هي نوع آخر من التجسيد الاسرائيلي , إن كل تساؤل عن جدوى العمليات الخارجية سيسقط عندما يصبح كل امتداد اسرائيلي في العالم معرضاً للضرب في أية لحظة ، وحين تكون كل مؤسسة صهيونية في موقع الخطر يومياً وحين تكون الامبريالية بمصالحها ومؤسساتها عرضة للعقاب المستمر .
إن ثمة حرب طرفها الأول اسرائيل والصهيونية والامبريالية العالمية والرجعية ، وطرفها الثاني شعب فلسطين والأمة العربية والتقدميون في العالم , ومثلما أن العدوان على شعب فلسطين لا ينطلق من بقعة جغرافية محددة بل آت من عدة أماكن في هذا العالم فإن مواجهة العدوان التي يقوم بها شعب فلسطين لا يمكن أن نلزمها بالعمل في رقعة جغرافية محددة . هذه هي أطراف الصراع وذاك هو منطق المجابهة الثورية .
 العمليات الخارجية : مناقشات
في أعقاب حادث انفجار طائرة سويسرية في الجو في شباط 1970 ، تفجرت من جديد مناقشات من زوايا مختلفة لمبدأ العمليات الخارجية ، وبالطبع استهدفت هذه المناقشات السعي نحو “إدانة” الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وإستراتيجيتها أكثر مما استهدفت إجراء تقييم موضوعي لهذا الجانب الهام من جوانب نشاط المقاومة الفلسطينية المسلحة .
وفي أسبوع واحد ظهر مقالان حول هذا الموضوع ، الأول “المصور” القاهرية ، والثاني في “الحرية” البيروتية .
إن ملاحظة مهمة يجب تأكيدها قبل الشروع في تفحص مجموع الآراء التي يطرحها أعداء استراتيجية تعقب العدو في كل مكان:
 خلال عام 1969 شكلت العمليات الخارجية ما نسبته حوالي 3 % فقط من مجموع عمليات الجبهة الشعبية المسلحة ، وهذه الحقيقة مهمة للغاية لأنها تلغي اتهاماً تبسيطياً وانتهازياً شائعاً هو القول بأن الجبهة الشعبية تقاتل العدو فقط “خارج فلسطين والأراضي العربية المحتلة” ، فمثل هذا القول مغرض بمقدار ما هو مزور فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تضرب العدو في الداخل والخارج ، بل أنها تضربه في الداخل أكثر بمئات المرات مما يفعل أولئك الأكثر تطرفاً في نقد الجبهة الشعبية ، ومن العدل أن نسجل أنه في حين تبلغ نسبة عمليات الجبهة الشعبية الديمقراطية داخل فلسطين المحتلة أقل من 2 % من مجموع عملياتها المرتكزة في وادي الأردن وخط هدنة 1948 في جنوب لبنان ، فإن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هي التنظيم الفلسطيني الذي سجل أكبر نسبة من العمليات المسلحة عميقاً داخل فلسطين المحتلة (تل أبيب ، حيفا ، الطنطورة ، القدس ، رام الله ، الخليل...الخ) وهي التي تقود - منفردة تقريباً - الثورة المشرفة واليومية في قطاع غزة الملتهب .
 إن هذه الحقيقة يجب أن توضع في الاعتبار حين التحدث عن الجزء الخاص بالمجال الخارجي من نشاط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وإلا انتهز المزايدون والمرتجلون الفرصة لقلب الميزان...وقبل الدخول في مناقشة وجهات النظر تلك ، ثمة ضرورة ملحة لتحديد مواقف مبدئية :
• أولاُ : إن حرق مأوى العجزة اليهودي في ميونيخ ، الذي استخدمه البعض “مدخلاً” للحديث عن العمليات الخارجية , صحيح أن معظم المقالات التي كتبت في هذا المجال ــ بأقلام عربية ــ لم تذهب إلى حد تحميل مسؤولية هذا العمل للفدائيين ، ولكنها حرصت بنفس المقدار على استخدام الجو السلبي الذي أحاط بذلك الحادث لتسريب مواقفها المتخاذلة . إن الإثبات الوحيد الذي تبقى عن الحريق في مأوى العجزة اليهودي هو ( كما تقول دير شبيغل الألمانية – 9 / 1970) تنكة بنزين من ماركة “آرال” وكانت تنكة من نفس النوع قد سرقت قبل الحريق بأسبوع من ثكنة “ماك غرو” الأميركية في ميونيخ ، وهذا وحده يكفي للإشارة بأصبع الاتهام إلى جهات غير فلسطينية وغير عربية لأن هذه الجهات مهتمة بنسف تلك “القاعدة” أكثر من سرقة تنكة بنزين منها !
• ثانياً : إن حادث انفجار الطائرة السويسرية في الجو مازال محاطاً بالغموض ، وبرغم أن مجموع التنظيمات الفدائية أعلنت عدم مسؤوليتها عن عمل من هذا النوع لاتهام جهات فلسطينية بهذا العمل ، ومن المؤسف أن بعض “العرب” وقع في هذه الشبكة التآمرية...
• ثالثاً : حادث انفجار القنابل اليدوية في مطار ميونيخ ، الذي نفذه رجال “الهيئة العاملة” يتحمل المسؤولية الأولى فيه الطيار الاسرائيلي الذي هاجم أحد الفدائيين فيما كان يحمل قنبلة يدوية مفتوحة الزناد ، فأدى ذلك إلى انفجارها في سيارة الركاب التي كانت متوجهة إلى الطائرة ، والتي كان يعتزم الفدائيون ــ بالتهديد ــ الوصول إليها وخطفها ، وهذه “الخصوصية” للحادث المذكور يجب أن توضع دائماً في عين الاعتبار عند البحث فيه.
• رابعاً : بصرف النظر عن كل هذه التفاصيل فإن مبدأ القبول بإستراتيجية العمل الفدائي في الخارج ــ شأنه شأن أي مبدأ آخرــ لا يخضع لحالة الإطلاق والتعميم ، وليست كلمة “العمل الخارجي” كلمة سحرية يمكن لأي كان أن يدرج تحتها أي عمل ينتسب جغرافياً إلى “الخارج” ، ومن الواضح أنه يمكن لعملية خارجية أن تكون ممتازة ويمكن لعملية أخرى مختلفة أن تكون مسيئة ، وهذه المسألة تتعلق بنوع العملية ، واستهدافاتها ، وتوقيتها ومكانها ، وكفاءة تخطيطها وتنفيذها ، والقضية التي تخدمها ، وأثرها الدعاوي والإعلامي والتحريضي والتعبوي ، وإلى آخر هذه القضايا التي لا تقتصر أهميتها الجوهرية على العمليات الخارجية ، ولكن على كل عملية عسكرية تقريباً...
وإذا كان من الخطأ تبرير وتمجيد “كل” عملية خارجية ، فإن الخطأ الموازي في السذاجة هو إدانة وشجب “كل” عملية في الخارج ( كما دأبت بعض الجهات على ذلك دون مسؤولية ) فليس ثمة شيء صائب بالمطلق ولا شيء خاطئ بالمطلق .
 وجهة نظر “المصور” :
بعد هذه المقدمة ، لا بد من إلقاء نظرة على تعليقين من تعليقات كثيرة ظهرت في الأسبوع الماضي : الأول كتبه أحمد بهاء الدين في “المصور” ( 27/2 ) والثاني ظهر في “الحرية” ( 2/3 ) .
إن السيد أحمد بهاء الدين يلاحظ عن حق ، أن عمليات الخارج “بدأت بطريقة محسوبة” ولكنه يخطئ حين يقول ان صعوبات قد نشأت “جعلت هذه العمليات تخرج عن الخط المرسوم لها” ، فقد كان من المفترض منذ البدء أن العمليات الأولى ستؤدي إلى نشوء صعوبات ، ولم يكن من المفترض معاندة هذه الصعوبات بصورة مرتجلة ، وما أٍماه الأستاذ بهاء الدين “خروجاً” عن الخط المرسوم ، كان “رسماً” لخط مختلف.
إن الأستاذ بهاء الدين على حق حين يدين الارتجال في العمليات الخارجية ، وربما كان هذا الارتجال في عمليات ظهرت مؤخراً في الخارج هو الذي يستحق البحث والتعقب والنقد ، ولكن هذه المسألة مختلفة عن المسألة الأولى .
ربما كان اعتقاد الأستاذ بهاء الدين بأن “السهولة النسبية لبعض العمليات الخارجية ، سوف يكون إغراء مستمراً للمنظمات الصغيرة” هو الذي جعله يتخوف ، وبالتالي يمزج بين الأخطاء الناتجة عن الارتجال وعن “السهولة” بالمبدأ .
الشيء المؤكد هو أن العمليات الخارجية ليست سهلة ، ولا هي سهلة نسبياً ، بل هي في الحقيقة أكثر صعوبة وتعقيداً واستنزافاً للجهد وللوقت من العمليات الأخرى ، وإذا كان طرف ما قد اعتقد أنها “سهلة” وأوقعه ذلك الاعتقاد بأخطاء ، فهذا لا يدين المبدأ..فكم من الأطراف اعتقد أن تحريك دورية فدائية في الأراضي المحتلة هي مسألة سهلة ، وكم أدى مثل هذا “الاستسهال” إلى أخطاء غالية الثمن ، ولكن هذا شيء ، وإدانة المبدأ شيء آخر.
على أن الأستاذ بهاء الدين ، في الواقع ، يقترح اقتراحاً صائباً حين ينتهي إلى القول بأن الأسئلة الأساسية هي : “ما هو العمل الفلسطيني في الخارج ؟ ما و المباح فيه وغير المباح ؟ ما هي الأفكار الجديدة التي يمكن ابتكارها له ؟” إن هذه الأسئلة مهمة لأنها – بالنسبة للجبهة الشعبية على الأقل – قد طرحت قبل إقراد المبدأ ، ولم يكن ذلك الإقرار إلا موقفاً استراتيجياً تخضع العمليات الخارجية لخدمته ، وقد شرحت تلك الإستراتيجية في أكثر من مناسبة وفي معظم الأحيان في نفس المكان الذي كان ينفذ فدائيوها فيه عملياتهم .
 “الحرية” : عرض خاطئ
وإذا كان الأستاذ بهاء الدين قد تناول هذا الموضوع تناولاً موضوعياً ، وطرح وجهة نظره من زاوية بناءة تستهدف تحقيق درجة متقدمة من الجدوى واختصاراً أشد للأخطاء ، فإن مجلة “الحرية” قد فعلت العكس ، وراحت تستخدم أوصافاً واصطلاحات أن هي لا تدل على جهل كتابها لمعانيها فهي تدل على استخفافهم بوعي القارئ.
وفي نوع مكشوف عن التحريف المتعمد مضت “الحرية” تسجل مقطعاً من كتابات لينين وراء مقطع من كتابات لينين ، تستعير من خلالها مواقفه إزاء أحداث معينة ، مختلفة كلياً عن موضوع العمليات الخارجية لتصف من خلالها موقفاً ماركسياً مزعوماً من مسألة العمل الخارجي .
وطريقة الحرية في ذلك هي ذاتها طريقتها في الكثير من “تحليلاتها” : فهي تضع افتراضاً خاطئاً ، وتروح تثبت – بالاقتباس من بطون الكتب – ما يؤيد موقفها من ذلك الافتراض ، فقد قررت ، هكذا ، أن العمليات الخارجية هي “عمليات إرهاب فردية” ، ثم اقتبست لينين لإدانة عمليات “الإرهاب الفردية” ، بين الافتراض والاقتباس ألفت محاضرة نظرية مكرورة ومفروغ من بديهياتها ، عن العمل الجماهيري ..!
إن “الحرية” تحتال على الألفاظ ،أو في أحسن الأحوال تسمي الأمور بغير أسمائها ، إذاً ما هي العلاقة بين “العمليات الخارجية” وبين “الإرهاب الفردي”:
• إن “الإرهاب الفردي” كلمة تستخدم لوصف القمع الذي يستهدف تكريس وضع استغلالي أو احتلالي ، والفرق بين “الإرهاب” وبين “العمل الثوري” هو ذاته الفرق بين العنف الذي يستعبد والعنف الذي يحرر ، العنف الذي يخدم قضية عادلة والعنف الذي يخدم قضية عادلة والعنف القمعي لمنع انتصار قضية عادلة ، وإنه لشيء مخجل حقاً أن يصل ضيق الأفق والمنطق العصبوي حدا يدفع “ثائرا ً” لأن يسمي العنف الثوري إرهاباً !
• أما الفردية فإنها ، علمياً ، تعني قيام فرد بعمل يستهدف مصلحة فردية ، أو قيام مجموعة من الأفراد بعمل ضد فرد لكونه فرداً من خلال الاعتقاد بأن تصفية ذلك الفرد يصفي ما يمثله طبقياً ، وبهذا المعنى فإن “الفردية” اصطلاح مضاد للإستراتيجية ، ولجماعية القرار ولشمول المعركة ، أما إذا نفذ فرد أوامر تنظيم جماعي من خلال مبادئ إستراتيجية عن طريق ضرب هدف للعدو هو جزء من أهداف أخرى،فإن هذا العمل لا يمكن أن يكون فردياً ، ولو كان لتوجب أن تختصر الثورات من تاريخها أكثر من نصفه ، ولتوجب أن نعتبر الثوار الفيتناميين السبعة الذين هاجموا السفارة الأميركية في سايغون ضحايا “تصرفات فردية” ، وكذلك “آلفرد” الذي قالت الجبهة الديمقراطية في أحد بياناتها أنه قتل داخل سجن نابلس“فردا” آخرا كان يتجسس في السجن لحساب العدو!
• الآن،إذا جمعنا كلمة “الإرهاب” إلى كلمة “الفردية” – وفق معانيها العلمية- فهل هي يا ترى ذاتها“العمليات الخارجية”؟ إننا متفقون تماماً مع المنطق البديهي الذي سجلته “الحرية” باحتفال كبير عن إدانة “الإرهاب الفردي” وشجبه وعدم جدواه ، إلا أن ما تستوجب إدانته هو ما ذهبت إليه “الحرية” دون أي أساس علمي وموضوعي ولا عقلي،إلى وصف العمليات الخارجية “بالإرهاب الفردي”
 الاستشهاد المضلل بلينين
والأخطر من ذلك هو أنه بعد أن مررت “الحرية” استخدامها الخاطئ لمعنى كلمة إرهاب ، ومعنى كلمة فردي ، ومعناهما معاً ، كرست مقالها لإدانة “الإرهاب الفردي” وهي تقصد “العمل الخارجي”، واستخدمت مقتطفات من “لينين” تدين الإرهاب الفردي مع العلم بأن لينين كان يقصد الإرهاب الفردي بمعناه العلمي وليس بمعناه المزور !
لقد أدان لينين “الفردية” مقابل“الانضباط التنظيمي” ، وأدانها كعمليات “عفوية” مقابل“العنف الثوري المخطط” ، وحين تحدث عن “الإرهاب الفردي” كان يدين مبدأ الاغتيال السياسي للأفراد بديلاً عن مقاتلة العدو الطبقي أو الاستعماري.
ومن الواضح أن هذا كله شيء ، وأن “العمليات الخارجية” شيء آخر تماماً !.
 المثال الفيتنامي ودروسه
إن جزءاً كبير من مقال“الحرية” يلقي علينا عظة مطولة عن المبادئ التي يعتمدها الثوار الفيتناميون في نشاطهم الثوري ، وهذه العظة ترمي إلى تكريس“معادلة ساذجة” : إن ما لم يفعله ثوار فيتنام خطأ ، والواقع أن هذا بالضبط هو “الإرهاب” بمعناه الأيديولوجي !
إن هذه المعادلة تفترض أيضاً أن ما يفعله الثوار الفيتناميون هو قانون وعلى هذا الأساس فالمطلوب إذن من الثورة الفلسطينية أن تستخدم “القصب” بالاتساع الذي يعتمده ثوار فيتنام ! وهذا المثال ليس ساذجاً كما يبدو للوهلة الأولى لأننا لو اعتمدنا منطق “الحرية” لألزمنا أنفسنا بكثير من الأمور ، ولكان علينا التخلي عن كثير من الأمور ، ( مثل قصف القوات الاسرائيلية بالمورتر من الغور الشمالي في الأردن!) .
على أن المدهش هو أن “الحرية” في الوقت الذي تستشهد فيه بالمثل الفيتنامي تتجاهل – على سبيل المثال- أن تشي غيفارا دافع بحرارة عن “أفراد” يخطفون الطائرات الأميركية من قلب الولايات المتحدة إلى كوبا ، وقد فعل ذلك على منبر الأمم المتحدة .
إن ما تفعله “الحرية” هو بالضبط ما حذر منه ماوتسي تونغ حين أدان أؤلئك “الذين يبرون أقدامهم كي تلائم الجذاء !” وإلا ما معنى هذا القول : “إن مثال فيتنام واضح جداً ، فقد كان بمقدور الحركة الثورية الفيتنامية أن تلاحق المصالح الأميركية خارج حدود فيتنام ولكنها رفضت هذا النهج منذ البداية”. لأن الشعب الفيتنامي لم يطرد “خارج” حدود بلاده ، ولأن الكيان الذي في سايغون وسكانه لم يؤت بهم من “الخارج” ، ولأن الامبريالية الأميركية ليست الحركة الصهيونية ، ومع ذلك فإنه من العجيب أن لا تسمي“الحرية” نشاط ثوار فيتنام في لاوس ضد العدو الأميركي “عملاً خارجياً” .
في يوم ما أعلن “برتراند راسيل” إنه لا يستطيع أن يرى أي خطأ في السلوك الثوري لو قام ثوار فيتنام في نسف منازل سكنية في سان فرانسيسكو ، وذهب المؤرخ ، “ارنولد توينبي” إلى حد برر فيه مقتل أفراد من طرف ثالث في العمليات الخارجية ، وعلى صعيد بعيد عن النظرة الفلسفية والإنسانية “لراسل” والنظرة التاريخية “لتوينبي” ، فإن الثوار الجزائريين شنوا جزءاً كبيراً من هجماتهم في باريس نفسها .
وإذا كان لا بد من التشبه بالثورة الفيتنامية فإن درسها الأول هو تحريضها الفعلي والواقعي على اعتناق مبدأ التكيف مع الظروف الموضوعية للمعركة ولمعطياتها ولطبيعة العدو وأدواته ، فإذا كان جحيم اسرائيل الحقيقي محدوداً بإطارها الجغرافي فهذه مسألة تستحق البحث ، أما إذا كان ثمة إقرار بالكيان الإسرائيلي هو جزء من حجم الحركة الصهيونية وامتداداتها فإن ضرب طائرة للعال هو ــ على وجه التحدي والدقة ــ ضرب لهدف عسكري واستراتيجي ومعنوي ثمين ، بصرف النظر عن “المكان” .
لنعد قليلاً ــ من خلال المثال الفيتنامي ــ إلى ما تسميه “الحرية” “صرف النزعة الثورية الكامنة في مجرى العمل الإرهابي (!) وإثارة نزعة البطولة الفردية ... والنظر بإعجاب شديد إلى الفدائيين”... إن أكثر مطبوعات حركة التحرير الوطني الفيتنامي شهرة هو “كارت بوستال” يصور “الفرد” , “نيغوين فان تروي” لحظة إعدامه ، أهو إثارة لنزعة البطولة الفردية ؟ أم تراه مثال ونموذج للتحريض الثوري ؟ .
 العمليات الخارجية والنشاط الثوري
على أنه بالإضافة لهذه “الاحتيالية اللفظية” تحاول “الحرية” أن توحي بأن “العمليات الخارجية” (وفق المفهوم الذي أصرت على إلصاقه بها زورا) تشكل مجموع نشاط وكل استراتيجية النشاط الذي تقوم به التنظيمات التي تعتمده كمبدأ .
وهذا تضليل صفيق , فالعمليات الخارجية ــ في نشاط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ تشكل حوالي ثلاثة بالمئة فقط من مجموع عملياتها المسلحة ، وهي جزء من استراتيجية مرسومة ومقرة ، إن العمليات الجماهيرية اليومية التي تخوضها الجبهة الشعبية على نطاق واسع في غزة مثلاً ، وفي أعماق لم يستطع أكثر المتحدثين عن معارك المواجهة في فلسطين المحتلة حماساً الوصول إليه ، هي أبعد ما يكون عن أية إشارة إلى نشاط “إرهابي فردي” ، وحين تقول “الحرية” : “إن العنف الفردي ( وهي تقصد زوراً العمل الخارجي) لا يؤمن بالمشاركة الجماهيرية التي هي الأٍساس في حرب شعبية” فهي تحاول أن توحي بأن العمل الخارجي ــ في مفهومها الخاطئ له ــ هو الشيء الوحيد .
أما إذا كانت كلمة “فردية” تعني في مفهومها مسألة عددية فحسب ، فإن أية دورية فدائية عاملة الآن هي قبضة أفراد ، عددياً !
إن هذا “التفسير الحسابي” للثورة وللعمل الثوري مناقض لأبسط قواعد المنطق الثوري ، وهو يدل على سطحية مفرطة ليس فقط في فهم معنى كلمة “فردية” ولن أيضاً في فهم معنى الكفاح المسلح !
إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي مارست وتمارس وستظل تمارس العمل الخارجي كجزء لا يتجزأ من إستراتيجيتها لضرب العدو في أكبر عدد ممكن من أوكاره ، هي تنظيم جماهيري ، يعتمد أيديولوجية ثورية وعلاقات ثورية ويعمل وفق إستراتيجية الحرب الشعبية الطويلة الأمد ، ونشاط الجبهة انبثق واكتسب قوته واتساعه ويتزود بقدرات نموه ووسط الجماهير ، ومن خلال توعيتها وتنظيمها ، إنه في مواقفه النظرية وممارساته النضالية وعلاقاته التنظيمية بعيداً جداً عن “ترك الجماهير فريسة العفوية” ، وأول مبدأ تقتضيه الموضوعية هو الاعتراف بذلك ، وعدم تغطية هذه الحقائق بابتكارات وتضليل أساسها الغرض الخاطئ ، والاقتباس المغرض ، والتسميات المزورة ، وفوق ذلك كله تعميم الجزء على الكل ، والانتقالية الانتهازية ذات الأصول الذراعية .
 عن ضرب المصالح الامبريالية
إن “الحرية” تنتقل من “نقد” العمليات الخارجية (وهو كما رأينا نقد وضع أمامه هدفاً أكثر سهولة بانتقائه عبارة العمل الفردي الإرهابي) إلى نقد مبدأ ضرب المصالح الامبريالية ، فتمارس عملية تنظيرية معقدة ومفتعلة : “المصالح الامبريالية هي مجموع العلاقات الاقتصادية والسياسية التي ترتكز عليها هذه المصالح في الوطن العربي” .
ماذا يعني هذا التنظير الاستعراضي ؟ هل يعني أن ضرب المصالح الامبريالية ( التي هي علاقات ترتكز عليها المصالح الامبريالية! ) هو ــ كما تقول “الحرية” ــ “تزييف لمعنى المعركة ضد المصالح الامبريالية”؟ لننظر كيف تحل “الحرية” هذه المسألة:
“إن مهمة العمل الفدائي في نضاله ضد اسرائيل أن يرتبط ويتعامل نظرياً وسياسياً ونضالياً مع النضال الجماهيري الثوري في كل بلد عربي ... وهذا وحده هو طريق ضرب المصالح الامبريالية”.
ولكن“الحرية” – رغم هذا كله – لم تقل لنا كيف!
إن الرغبة في التنظير هنا تتجاوز الشعور بالحاجة إلى تحديد موقف ، بالطبع أن “الارتباط النظري والسياسي والنضالي مع النضال الجماهيري الثوري في كل بلد عربي” هو شعار ضروري ومصيري ولا يجوز التقليل من أهميته ، ولكن هل هذا شيء يتعارض مع ضرب مصالح الامبريالية ؟ وإذا استهدف هذا “الجماهيري الثوري في كل بلد عربي” ضرب المصالح الامبريالية ضرباً مباشراً ، فهل لأن“العنف الفردي يعتبر هذه المصالح الامبريالية مجرد مصالح مادية فردية”؟ وهل من “المحظور” على العمل الفلسطيني ضرب هذه المصالح الامبريالية ؟ ألا تشكل الامبريالية ــ من خلال مصالحها في الوطن ــ رأس حربة في معسكر العدو ؟
ثم ما معنى كلمة “إن ميدان المعركة ليس المصالح المادية الفردية للامبريالية” ؟ إن كلمة “المصالح ... الفردية للامبريالية” لا يمكن أن تكون واحدة من مفردات عقل ماركسي ، إذ ما هي الامبريالية الفردية والامبريالية غير الفردية ؟ علاقات ؟ ولكن هذه الكلمة ليست تجريداً نظرياً ، إنها مجسدة في مصالح !
لنعد هنا ، هنيهة ، إلى المثال الفيتنامي : على ثوار الفيتنام في معركتهم ، ألا يضربوا المصالح الامبريالية... فأي شيء تراهم يفعلون الآن؟ ولماذا إذن هجماتهم على مستودعات النفط التابعة لشركات أهلية سايغونية ؟ ألا أنها - يا ترى - جزء من الجهد الحربي الأميركي ؟ ماذا إذن عن “شل” التي يملكها روتشيلد (الفرد) والاحتكارات الأميركية التي يسيطر عليها (أفراد) والتي بنت مؤخراً خط أنابيب نفط إيلات ــ عسقلان ؟ وماذا عن الأرامكو؟ وماذا عن غيرها وغيرها ؟
إنه من المؤكد أن ضرب أنبوب نفط تعود ملكيته إلى ما تسميه “الحرية” “الفردية الامبريالية” (!) لا يقضي على الوجود الامبريالي ، ولكنه جزء من المعركة ضد هذه المصالح (أو مجموع العلاقات التي ترتكز عليها هذه المصالح)، وله دور تحريضي وتعبوي وعسكري وسياسي هو جزء لا يتجزأ من الأساليب النضالية الثورية التي تصل ــ كما لا شك يعرف الماركسيون ــ إلى حد قيام العمال بتخريب آلات المصانع التي يعملون فيها (ألا إذا كان تخريب هذه الآلات هو “تثبيت” للعلاقات التي ترتكز عليها هذه الآلات !!! ) .
إننا نتفق مع الأستاذ أحمد بهاء الدين على أن “موضوع العمل الفلسطيني في الخارج لا يجوز أن يترك للمبادرات الفردية وشبه الفردية ولعدم التنسيق” وكذلك نحن متفقون معه على أن“العنف الثوري ليس تعبيراً مجرداً ، إنه ليس العنف الغاضب ، إنه العنف الذي يخدم الثورة وأهدافها” ، ونحن متفقون أيضاً ، مع “الحرية” على أن “الإرهابية الفردية طريق مسدود للحركة الجماهيرية”... وكذلك العقل العصبوي والانتهازي !
 الامبريالية والعمليات الخارجية
“منذ أن قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتسديد ضرباتها الإنذارية للأهداف والمصالح الامبريالية في 29/3/1970 والصحافة البرجوازية العربية مستمرة في تحليل هذه الضربات ، وتوجيه النقد إليها ، وإثارة جو التشكيك من حولها . وهذا أمر طبيعي ناجم عن التسلسل المعقول للأحداث ، وترابط العلل بالمسببات . وفي المقال التالي بعض الأضواء على أسباب وأبعاد هذه الضربات وتوقعات نتائجها”.
لماذا نضرب الأهداف الامبريالية الاميركية ، ولماذا نسدد الطعنة تلو الطعنة لنقاط العدو الامبريالي الحساسة ومراكزه العصبية ؟ هذه هو سؤال الساعة . ولا بد لنا من إجابة الجماهير عليه حتى لا تقع الجماهير في فخ القائلين بأن عملنا يؤدي إلى إثارة القلاقل ، وجر الثورة من مواقعها ضد العدو لزجها في معارك جانبية طائفية ، ولنبدد أوهام الضانين عن خطأ ــ في أفضل الحالات ــ بأن هدفنا من كل ذلك توعية الجماهير وكشف القناع عن أعدائنا الحقيقيين ، كما ظن معين بسيسو عندما كتب في الأهرام (1/4/1970) :
“... فالولايات المتحدة الأميركية هي العدو الأول للشعب الفلسطيني وللثورة العربية ، وهي السند الأول للاحتلال ،وهي الممول الأول والمحرك الأول والمهندس الأول لكل مخططات عدوانه ، وهذه حقيقة قد أصبح يعرفها الأطفال العرب حتى دور الحضانة...”
كلا ! إن هدفنا أكبر من ذلك بكثير ، ولفهم هذا الهدف لا بد من معرفة طبيعته ومنشئه ، والتعمق في وعي العلاقة الجدلية التي تحكم تصرفنا وتوجه خطانا .. إن التناقض الأساسي القائم في المنطقة هو تناقض بين الامبريالية والثورة التي يصر معين بسيسو على فلسطينيتها وتصر الجبهة الشعبية على عروبتها . ولكن الامبريالية الجديدة الذكية التي تضع كل قواها في مجابهة الثورة لا تقف أمامنا بصورة مكشوفة ، ولا تقاتلنا بشكل مباشر ، ولكنها تستخدم في صراعها ضدنا أسلوب القتال “عن طريق شخص ثالث”.
ولا يهمها من يكون هذا الشخص الثالث ، والمهم بالنسبة لها هو أن ينفذ مخططها بدقة ، بعد أن يقبض الثمن الذي يقل عن الثمن الذي تعرف أن عليها أن تدفعه من سمعتها ودمها لو أنها اشتبكت مع الثورة في صراع مكشوف على غرار الصراع الفيتنامي أو الكوري .
بيد أن وجود الشخص الثالث لا ينفي التناقض الأساسي ، ولكنه يخلق تناقضات فرعية هي في جوهرها مظهر من مظاهر استخدام أدوات التناقض الأول . ويبقى هدفنا الأول في الصراع مجابهة العدو الأساسي دون أن تستطيع أدواته وأسلحته الجديدة إخفاء هويته أو جرنا إلى معارك جانبية ثانوية .
إن الرأس الامبريالي مستعد للصراع ضدنا لعرقلة مسيرتنا الثورية إلى أمد طويل ما دام ذلك الصراع لا يكلفه شيئاً , وما دام قادراً على دفع بعض المخدرين بسموم الطائفية أو الإقليمية أو المكاسب الشخصية للوقوف في خنادقه الأولى , خاصة إذا ما أصيبت الثورة بعمى استراتيجي يجعلها عاجزة عن التمييز بين القوة التي يؤدي ضربها إلى شلل العدو شلاً كاملاً والقوة التي لا يؤدي الى ضربها إلا الى إنقاص قوة العدو وفاعليته . ويدفعها لأن لا ترى في المعركة التشتيتية إلا الأدوات , ولا تتنطح إلا لمجابهتها . وسبب قدرة الرأس الامبريالي على الصراع الطويل في مثل هذه الظروف هو أنه منتصر على المدى الاستراتيجي مهما كانت النتائج التكتيكية للمعارك المتعاقبة . فهو يعرف أن انتصار أدواته المحلية على الثورة يعني تحقيق كل ما يصبو إليه , أما انتصار الثورة على الأدوات فهو ربح جزئي له , لأنه انتصار يكلف الثورة خسائر في الوقت والجهود هي بعض ما يود تحقيقه .
لقد كان الإقطاعي والرأسمالي والبرجوازي على مر العصور قادرين على استنفار جزء من الطبقة لضرب الجزء الآخر , دون أن يكفهم ذلك عناء الاشتباك في المعركة ودفع الثمن من دمائهم . وكانوا يمارسون هذا الدور بلا تحفظ ويندفعون فيه إلى أقصى حدود العنف ما دامت الدماء السائلة من الطرفين غريبة عن دمائهم . ولكن ما أن بدأت الطبعة تعي ذلك , وتسدد لهم الضربات حتى أخذوا يفكرون ملياً قبل التورط في أي صراع . وتقوم الامبريالية الأمريكية اليوم بدور الرأسمالي العالمي , وهي تحرك هراوات عملائها بكل أمان لتحطم هذه الهراوات رؤوس الجماهير الثائرة , أو لتتحطم على هذه الرؤوس . وليس هذا مهما ًما دام الرأس الامبريالي سليماً , وما دامت المصالح الأمريكية بعيدة عن كل تهديد . ولكن ما أن تتهدد المصالح نفسها ، وما أن نرى المعارك الجانبية بحجمها الحقيقي فلا نزج ضدها كل قوانا ، وحتى يفهم العدو الرئيسي بأن أسلوبه التشتيتي مكشوف ، وأن سلاحه الطائفي أو الإقليمي مغلول فيقلل من استخدامه ، ويضطر إلى التفكير ملياً قبل تحريك الهراوات المحلية ، وهذا ما ينقص احتمالات الصدام الجانبية بدلاً من أن يزيدها ، ويخدم بذلك مصلحة الثورة على عكس ما يدعون .
وبالإضافة إلى كل هذا تشارك أعمالنا في تعبئة الجماهير ، وخلق المناخ الثوري ... إن معرفة الجماهير لطبيعة العدو وأبعاده وأساليبه ومخططاته أمر أساسي هذه حقيقة نعرفها ولا ننتظر من يؤكدها لنا ولكن المعرفة المجردة تبقى بلا جدوى إذا لم تترجمها الطلائع إلى عمل . وما فائدة معرفة العدو ــ رغم أهميتها ــ إذا بقيت الجماهير سلبية تنظر إلى المصالح الامبريالية وهي تستنزف دمها دون أن تتحرك ؟ وما هو دور الطلائع الثورية إن لم يكن تجسيد الفكرة وتقديم المثل ؟
يقول الإنجيل :“في البدء كانت الكلمة”.ويحتج فاوست على ذلك بقوله:“كلا ! في البدء كان العمل”. وما ضربات الجبهة الشعبية ضد المصالح الامبريالية على أرض الوطن العربي كله سوى ترجمة المعرفة إلى عمل .
ولكن هل ستقف الأمور عند هذا الحد ؟ وهل ستتراجع الامبريالية الأميركية فور تعرض بعض مصالحها للخطر؟ وهل ستتوقف عن تحريك الخيوط بعد الصدمة الأولى مهما بلغ عنفها ؟ وهل يتعذر عليها استخدام خيوط جديدة إذا ما تقطعت الخيوط الأولى ؟ كلا ، إن طبيعة الصراع تحتم استمراره ، وامتناع العدو عن استخدام الاشتباكات الجانبية ( لعدم جدواها) يحتم عليه إيجاد وسيلة أخرى للاشتباك ، والعلاقة الجدلية بين إرادة الخصم وإرادة الثورة قائمة حتى يتم النصر. ولفهم آفاق المستقبل واحتمالاته لا بد لنا من أن نعرف بأن العلاقة الجدلية المتبادلة في حوار الإرادات محكومة بعاملين هما : ميزان القوى وهدف الرهان. وهنا يمكننا أن نتصور كيف سيبحث العدو عن تحالفات وقوى جديدة محلية مع محاولة لتفتيت قوانا بغية قلب ميزان القوى لصالحه . وكيف سنعمل جاهدين لإحباط خططه بضم صفوف الثوريين الساريين ، مع محاولة خلق التناقض داخل القوى الجديدة المحلية التي يجندها ، وستكون المهارة التكتيكية حكماً أساسياً في هذا المجال . ويبقى هدف الرهان في آخر المطاف محور كل حركة . وهدف الرهان بالنسبة للعدو الامبريالي مصالحه التي نضربها أو نهدد بضربها . وهدف الرهان بالنسبة لنا وجودنا الذي تهدده الامبريالية الجديدة بالفناء ، مستخدمة أدواتها الثانوية وأداتها الرئيسة إسرائيل . والمقارنة بين المصالح والبقاء (كهدف رهان) مقارنة لصالحنا ، إذ يبقى القتال دفاعاً عن المكاسب والمصالح أقل شراسة من القتال دفاعاً عن الوجود .
هذه هي آفاق المستقبل أمامنا . وهذا هو المنطق الذي يحكم تصرفنا وينير سبيلنا عندما نقوم بضرب مصالح الامبرياليين الأميركيين . كتكتيك يخدم إستراتيجية محددة . لا استجابة تلقائية لصدمة كهربائية !!! وهو منطق عقلاني لا دخل للأهواء أو العواطف فيه . إنه منطق قطع رأس الأفعى لا ذنبها ، خاصة وأن التناقض قائم مع الرأس ، وأن الذنب لا يتحرك إلا في خدمة الرأس .
 ملاحظات :
• في عددها الصادر يوم 9 كانون الثاني 1969 نشرت “اللوموند” الفرنسية مقالاً للاسرائيلي موشيه ماخوبر(أستاذ جامعي وأحد أبرز العناصر القيادية في منظمة ماتس بن الاسرائيلية) نقتطف منه هذا المقطع التالي :
“إن الهجوم الذي شنته عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يوم 26 كانون الاول 1968 على طائرة العال الاسرائيلية في مطار أثينا قد شكل صفعة لإسرائيل ، ليس فقط لأنها سلطت الضوء على هشاشة خطوط مواصلاتها الدولية ولكن أيضاً لأنها عرضت أمام العالم تصميم المقاومة الفلسطينية المزودة بالجرأة والإقدام ... إن الرجال الذين نفذوا الهجوم كانوا يعرفون تماماً ما الذي كان ينتظرهم : السجن الطويل أو ربما الإعدام ، ومهما يكن الحكم الأخير . وعما إذا كان مبرراً عملياً وأخلاقياً ، فإن الرأي العام داخل وخارج اسرائيل لا يستطيع إلا أن يتأثر بمبلغ إصرار وتضحية المقاومة الفلسطينية” .
• ...“وليس من حق”الفيتكونغ“أن يضربوا قلاع العدوان الأميركي فحسب ، وأن يوجهوا ضرباتهم إلى الأسطول الأميركي السابع فقط ، بل أن يضربوا سان فرانسيسكو ونيويورك أيضاً ...” .
برتر أندرسل ,مجلةالهدف , ع17 , 15/11/1970
• ... “وفي القضية الفلسطينية بالذات ، فإن دماء أي ضحية بريئة من ضحايا عمليات الفدائيين الفلسطينيين العرب لا تقع على عاتق الفدائيين المقاتلين فقط ، بل على عاتق مؤسسات العالم ، بل على عاتق العالم أجمع ، لأنه من دون إذعان وخضوع الأجزاء المختلفة في العالم أجمع ، فإن مثل هذه المؤسسات ما كان يمكنها أن تسود ... وعندما لا يكون لضحية الاضطهاد شيء تخسره إلا حياتها ، فإنها تستطيع أن تأخذ حياة أعدائها بشكل جماعي وبثمن مقبول لديها ... إن لدى العرب الفلسطينيين ثأراً مفهوماً ضد الإسرائيليين ، ولكن لديهم شكوى ضدنا نحن جميعاً أيضاً ... إن الفلسطينيين اليوم هم في مزاج التضحية بأرواحهم ، وإذا كان باستطاعتهم أن يهدموا السقف على رؤوس أعدائهم الإسرائيليين ، ثم حطمت الحجارة المتداعية ــ بالصدفة ــ رؤوس بقية الجنس البشري ، فلماذا يتوجب على الفلسطينيين أن يهمهم هذا الأمر ؟ ماذا فعلنا نحن لنستحق أن يأخذوا بعين الاعتبار ؟...هذا هو التهديد الذي يدفع العالم،أخيراً،وبعد هذه الفترة الطويلة،إلى النظر جدياً في المظالم التي لحقت بالشعب العربي الفلسطيني...”
أرنولد توينبي , مجلة لوس أنجلوس تايمز , 30/3/1969
• ...“وعندما قام هذا الحزب أو ذاك بعمليات إرهاب فردية ضد أدوات استعمارية تضطهد الشعب وتتجسس عليه ، فإن لا يرتكب بذلك خطيئة”فاشية“( ومن هذه التهمة لا يفهم كلياً معنى الفاشية وظروفها وجذورها الطبقية في المجتمعات الغريبة ) ، وإنما يكون قد قام بعمل ما ضد الامبريالية... وهو بداية وعي ، ولكنه في كل الأحوال أعلى مثير من وعي”الطبقوية“المصابة بالحكاك الثوري والتي لا تقدم سوى رؤية حولاء للواقع ، ولا شك إن أمثال هؤلاء الذين يطلقون تهمة الفاشية تلك ، لم يفهموا لينين البتة ، هذا إذا كانوا قد قرأوه ، ولو أنهم فعلوا ذلك لأطلعوا على موقف لينين من مسألة”أشكال النضال“عموماً ، ومنها مسألة الإرهاب الفردي ، الذي لم يرفض أي شكل من أشكاله بشكل مطلق ومسبق”.
ياسين الحافظ / تأقلم الماركسية اللينينية , الهدف ,ع 38 , 18/4/1970
إلى أولئك الذين أذنوا لأنفسهم أن يقعوا عن عمد في فخ اللعبة الإسرائيلية ، وتعمدوا أن يستخدموا السقوط الغامض لطائرة سويسرية مدنية مدخلاً للنيل من مبدأ “العمل الخارجي” ، نسجل ها هنا بعض الملاحظات التي ما تزال في الذاكرة القريبة للعالم :
• في تشرين الثاني من عام 1940 اتخذت سلطة الانتداب البريطاني في فلسطين قراراً بإعادة السفينة “باتريا” إلى قبرص ، بعد أن تبين أنها كانت تحمل عدداً غير مشروع من المهاجرين اليهود ، إلا أن السفينة المذكورة انفجرت فجأة في ميناء حيفا قبل إقلاعها عائدة إلى قبرص ، ولقي 250 رجلاً وامرأة وطفلاً من اليهود كانوا على متنها حتفهم غرقاً . يقول وايزمن في كتابه “التجربة والخطأ” ، الصفحة 371 : إن لجنة التحقيق في الحادث شكلها القضاء البريطاني أثبتت أن السفينة أغرقت بواسطة عبوات ناسفة وضعتها في السفينة “جماعة إرهابية يهودية” !!!
• وفي شباط 1942 ، كانت السفينة “ستروما” التي تحمل 769 مهاجراً يهودياً غير شرعي إلى فلسطين تبحر عبر البحر الأسود أغرقها انفجار غامض ، ولم تستطع التحقيقات أبداً أن تكشف عن أولئك الذين قاموا بهذه الجريمة ، إلا أن الكاتب كريستوفر سيكس ، في كتابه “سورفاي أوف بالستاين” (ص 24) علق على هذا الحادث قائلاً :“لقد صممت الوكالة اليهودية على عدم التنازل بوصة واحدة عن المبدأ الأساسي : فتدفق المهاجرين يجب أن يواصل الانصباب في فلسطين ، ويجب ألا يتحول إلى أي مكان آخر ... ومن الأفضل أن يموتوا من أن يضعفوا التصميم الصهيوني” !
• وفي عددها الصادر يوم 8 شباط 1970 نشرت“مجلة النيويورك تايمز” مقالاً مطولاً بقلم “بول جاكوبس” تحدث عن نوع آخر من العمليات الإسرائيلية ، وقال ، حرفياً ، مايلي :
“بعد أن أوقف البوليس السويسري ، ذات مرة ، يوسف بنغال أحد رسميي وزارة التربية الإسرائيلية ، بتهمة تهديد حياة عالم ألماني كان يعمل في تطوير الصواريخ في مصر ، انطلقت أخبار عن قصص مثيرة في الصحف الأوروبية تتحدث عن نشاط الاستخبارات الإسرائيلية : كيف أرسلت طرود ملغومة إلى العلماء الألمان وشوهت بانفجارها مساعديهم ، وكيف خطف ألماني آخر من قبل الإسرائيليين واحتجز بصورة غير شرعية في فيينا ... وكيف أن طائرة خاصة كانت تحمل أناساً مرتبطين ببرامج عسكرية مصرية انفجرت بصورة غامضة وهي في الجو ، وقضى جميع ركابها نحبهم في ذلك الانفجار”!

المهاجر : الكتيبة الطلابية | الجزيرة الوثائقية





معين طاهر: من ملاحم الصمود في لبنان
إلى إعادة التأسيس في فلسطين*

يروي قائد "كتيبة الجرمق / السريّة الطلابية" التابعة لحركة "فتح" معين طاهر، قصة السريّة الطلابية التي تحولت إلى كتيبة في قوات العاصفة لاحقاً، وكان لها دور مميز في التطورات التي شهدها لبنان بين مطلع سبعينيات القرن الماضي حتى أواسط ثمانينياته، عبر سيرة ذاتية تعود إلى بدايات انتمائه إلى حركة "فتح" في نابلس وهو فتى، مروراً بتجربة الأردن. ويركز، في مقابلة أُجريت معه في عمّان، على نقطة الذروة في تجربة "كتيبة الجرمق" أو "السريّة الطلابية" في لبنان، التي كانت أكثر من تجربة عسكرية، بل كانت مساحة لسجال الأفكار وتفاعلها من اليسار إلى اليمين، وأكثر من تجربة فلسطينية كان فيها ناشطون لبنانيون من جميع الطوائف، ومن جنسيات عربية مختلفة، وغير عربية.
المقابلة التي أجراها رئيس تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية" إلياس خوري ومدير تحرير المجلة ميشال نوفل مع معين طاهر، وهي مشروع لكتاب عن تجربة السريّة الطلابية، تفتح نافذة على ذاكرة حية، وتؤسس لاحتمالات مستقبل آخر، في ساحة من التلاقي والالتزام بفلسطين كقضية كانت، ولا تزال، أكبر من جغرافيتها المباشرة.

البدايات
س: معين طاهر، قائد كتيبة الجرمق ـ السريّة الطلابية. هل تروي لنا قصتك مع حركة "فتح" وقوات العاصفة؟
ج: التحقت بـ "فتح" في سنة 1967 بعد نكسة حزيران / يونيو عندما كان كل الجيل الذي بعمرنا، وكنت أنا في الخامسة عشرة، يبحث عن وسيلة من وسائل المقاومة. عندما انتميت إلى حركة "فتح" لم يكن واضحاً في ذهني ما هي "فتح"، كنت أبحث عن حركة مقاومة ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين كردة فعل على نكسة حزيران / يونيو 1967، وفيما بعد بدأت أكتشف أن "فتح" بحكم أيديولوجيتها وتفكيرها هي حركة الشعب الفلسطيني بجميع أطيافه وفئاته. النظرة إلى "فتح" بأنها حركة التحرر الوطني الفلسطيني تسمح للفرد، بغضّ النظر عن خلفيته الفكرية وعن اتجاهه الأيديولوجي، بالانتماء إليها، ما دام يؤمن بأن التناقض الرئيسي هو مع العدو الصهيوني، ففي "فتح" مساحة ما توفرها له كي يمارس قناعاته، الأمر الذي دفع العديد من الأشخاص من مختلف الانتماءات الفكرية والتنظيمية السابقة إلى الاندماج في إطار حركة "فتح".

س: ماذا فعلت بالتحديد في هذه الفترة؟
ج: بعد أن غادرت نابلس لظروف عائلية لجأت الى إربد مع والدتي حيث أصبحت من مسؤولي التنظيم الطلابي لـ "فتح" في شمال الأردن، ومن مؤسسي اتحاد طلبة الضفتين، وكان معي الشهيد علي أبو طوق ومجموعة من الشباب منهم شمس التيني الذي بقي معنا فترة طويلة في بيروت، وكفاح (موسى عامر). في معركة الكرامة التحقنا بقواعد الفدائيين في اغوار الشمالية تحسباً لتطور الهجوم، ولدعم وحدات الفدائيين في الكرامة، وحصلنا على ذخيرة رشاشات "كارلو" من الجيش العربي اردني. عملت لفترة مدرباً في معسكرات اشبال في مخيم إربد ومخيم الحصن. في أيلول / سبتمبر 1970 كان يوجد في التنظيم الطلابي 300 طالب مدرب ومسلح. لم تحدث مواجهات حقيقية داخل مدينة إربد التي كانت تحت سيطرة المقاومة. استلم زمام القيادة الشاعر خالد أبو خالد، وعُيِّن له عدد من النواب كنت واحداً منهم على الرغم من أن عمري كان 18 سنة.
بعد أحداث أيلول / سبتمبر غادرت الأردن إلى القاهرة لدراسة الهندسة في الجامعة الأميركية هناك، لكنني مُنعت من دخول القاهرة، والسبب أنه في ذلك الوقت كانوا يمنعون كل الناس من أصول فلسطينية من الدخول. وكان يوجد غرفة في مطار القاهرة معروفة بأنها "غرفة المبعدين الفلسطينيين"، وقد نمتُ فيها 3 أو 4 ليالي حتى موعد الطائرة التي ستعيدني إلى دمشق، ومنها إلى بيروت حيث انتصرت رغبتي على إرادة اهل.

س: حتى الآن مررنا على أحداث أيلول / سبتمبر وقبلها معركة الكرامة، ما الأثر الذي تركه فيك هذان المنعطفان، وهل أجريت تقويماً لتجربة أيلول / سبتمبر، وهل توصلت إلى استنتاجات معينة؟
ج: معركة الكرامة نقلت حركة "فتح" من تنظيم نخبة إلى تنظيم أُطلق عليه في ذلك الوقت اسم "تنظيم الباص"، بمعنى أن الشخص الذي يقف في أي ساحة من ساحات أي مدينة في الأردن معلناً التوجه إلى "الكرامة"، يمكنه أن يستقطب عشرات المتطوعين. تدفّق بعدها آلاف المتطوعين من أنحاء العالم العربي، وأصبح معظم الناس أعضاء في "فتح"! أذكر أنني كنت بحكم موقعي في لجنة منطقة الشمال أتفقد أحياناً المناوبات الليلية للحراسة في إربد، وكنت أجد أستاذي في المدرسة، وأخي الأكبر سناً، وجيراني!! وهكذا تحولت "فتح" إلى تنظيم شعبي كبير. أمّا أيلول / سبتمبر فقصة أُخرى، طبعاً نحن الآن نقرأ أيلول / سبتمبر بمرآة اليوم، ونقوّم على أساسها تلك الأحداث لنرى ما هي آثارها ونتائجها، ولا نراها في مناخ اللحظة التي وقعت فيها. لكن لا شك في أن ثمة نظرة نقدية صارمة للعديد من الممارسات والمسلكيات والشعارات والسياسات التي مورست في تلك المرحلة.

ملامح تيار مختلف
س: نعرف أن تياراً يسارياً جديداً تشكّل من مصادر ومنابع متنوعة في إطار الحاضنة الواسعة "فتح"، وهو تيار سيقوم فيما بعد بتجربة رائدة بالنسبة إلى الشباب العربي، وليس الشباب الفلسطيني فقط. ما هي معالم هذا التيار، كيف تشكّل، وما هو دورك أنت، على سبيل المثال، ودور التنظيم الطلابي لـ "فتح"، في تشكّل هذا التيار؟
ج: بعد الخروج من الأردن دار جدل وحوار بين مجموعة كبيرة من المثقفين والمفكرين والكوادر في "فتح" االذين يحملون وجهة نظر نقدية تجاه القيادة وتجربة الثورة في الأردن، وعُرفت هذه المجموعات باسم يسار "فتح"، وضمّت أبو حاتم وماجد أبو شرار وأبوصالح ومنير شفيق وناجي علوش وأبونضال البنا وأبوداود، فضلاّ عن أحمد عبد الرحمن وحنّا مقبل ونزيه أبو نضال وأبو نائل وأبو فارس والدكتور أبو عمر حنا وآخرين، وكان هؤلاء جميعاً، يحملون وجهة نظر نقدية تجاه ممارسات القيادة، فأُطلقت عليهم تسمية يسار "فتح".. لكن هذه الحالة لم تؤدّ إلى نتيجة، إذ كانت حوارات يغلب عليها بشكل أساسي انتقاد القيادة من دون أي برامج عملية. نذهب ونتكلم ونشتم، ثم نعود ونفرح أننا شتمنا وقلنا إن فلاناً يميني وفلاناً يساري، من دون أن نتمكن من عمل شيء! أنا أذكر أن الشهيد أبو حسن قاسم في أحد هذه الحوارات قال لهم شيئاً واحداً، وهو كان يعمل في الرصد الثوري في عمّان مع أبو إياد، ثم انتقل إلى العمل في القطاع الغربي مع الشهيد كمال عدوان بصفته ضابط عمليات الأرض المحتلة، قال لهم: أريد أن أطلب شيئاً واحداً؛ اعطوني مجموعة واحدة ودعونا ننزلها دورية إلى الأرض المحتلة ونعمل شيئاً أساسياً هناك، وأنا أقول لكم إن كل الحديث الذي يشغلنا يصبح قابلاً للتطبيق، إذ إن الشهيد أبو حسن قاسم والشهيد سعد جرادات وعدداً من الأخوة كانوا قد بلوروا نظرية متماسكة عن العمل اليساري والثوري الفتحاوي تختلف جوهرياً عن اليسار الفتحاوي الذي راح يتجه في أغلبيته نحو الخط السوفياتي. أصبح الحوار يدور مع مجموعة أضيق قليلاً في إطار التنظيم الطلابي الذي كان يضم الشهيد مروان كيالي ونذير الأوبري وإدي زنانيري وعلي أبو طوق وعدداً آخر من الشبان، بمعنى أن هناك مجموعة في التنظيم الطلابي بدأت تتحاور وتشعر بأنها قريبة بعضها من بعض، علاوة على تواصلها مع مجموعات من القطاع الغربي وشؤون الأردن كانت تعمل مع الشهيدين أبو حسن قاسم وحمدي سلطان التميمي ومع محمود العالول وسعد جرادات، ومجموعات في القطاعات العسكرية مثل الشهيد الحاج حسن والشهيد محمد علي، فضلاً عن حوار دائم مع الشهيد نعيم والشهيد جواد أبو الشعر، وكذلك حالة حوارية مع ناجي علوش وأبو داود ومنير شفيق. هذه كانت النواة الأساسية التي بدأت تتشكل حول تيار يمتلك برنامجاً كاملاً يعتمد أساساً على التنظيم الطلابي وجزء مهم من القطاع الغربي، وموجود في صفوف قوات العاصفة بشكل أو بآخر.
وفي سنة 1973 طرأ عنصران أساسيان: الأول أحداث أيار / مايو 1973 في بيروت، والثاني حرب تشرين / أكتوبر. وقد تبلور عن تجربة أيار / مايو 1973 تشكيلٌ عسكري اسمه السريّة الطلابية.

س: دعنا ندخل أكثر في حنايا هذه المرحلة التأسيسية.
ج: في البداية بدأت تتشكل ملامح لهذا التيار تتعلق بأسلوب العمل في الجامعات اللبنانية. ففي لبنان عامة، كانت توجد نظريتان للعمل الوطني: الأولى تقول إن الأساس هو النضال المطلبي وصراع الطبقات، والثانية بدأت تتبلور بفضل وجود المقاومة وتعطي الأولوية للنضال الوطني والتصدي للاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب وقضية التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني. هذا المشهد بدأ يظهر بشكل أساسي في الجامعات اللبنانية. التيار المطلبي أخذ يتشكل على سبيل المثال في قيادة اتحاد طلاب الجامعة اللبنانية، وفي المقابل تشكلت في الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية "الجبهة الوطنية الطلابية" في مواجهة الفصائل المنضوية تحت جناح الحركة الوطنية واليسار اللبناني. وجاءت معركة كفر شوبا لتحدث فرزاً كاملاً بين هذين الخطين: العدو الصهيوني دخل إلى كفر شوبا واندلعت المعركة. في بداية المعركة أرسل التنظيم الطلابي 90 مقاتلاً إلى كفر شوبا، وانتهت المعركة وتم تدمير كفر شوبا، وكان يتعين عمل شيء هناك؛ أخذت الجبهة الوطنية الطلابية مبادرة في هذا الشأن بالتعاون مع السيد موسى الصدر. وذهبنا إلى كفر شوبا وتركز العمل على إعادة إعمار القرية وإعادة الحياة العادية إليها بمشاركة المجموعات الطلابية التي قدمت إلى البلدة. وهذه المبادرة كشفت تمايزاً في أسلوب العمل السياسي وأسلوب العمل النضالي في الساحة اللبنانية، وأذكر ان السيد هاني فحص جاء مع السيد موسى الصدر خلال زيارته إلى كفر شوبا، وإذ ذاك بدأت حركة أمل تظهر، أو "حركة المحرومين"، بمبادرة من السيد موسى الصدر.
بعد ذلك بفترة قصيرة جاءت أحداث أيار / مايو 1973 عندما قرر الجيش اللبناني أن يدخل إلى منطقة الطريق الجديدة حيث تتواجد مكاتب للمقاومة. طبعاً بحكم وجود جامعة بيروت العربية، فإن الجسم الطلابي كان أول مَن تنبّه إلى تقدّم الجيش اللبناني. كان لدينا بعض قطع السلاح في بيوت بعض الطلاب، فخرجنا إلى الشارع وتصدّينا لقوة الجيش اللبناني المتقدمة على مستديرة الكولا بالتعاون مع بعض مجموعات المكاتب ومنهم الشهيد أبو حسن قاسم في القطاع الغربي وغيفارا، وتم تدمير آلية للجيش اللبناني على مستديرة الكولا. وفي اليوم نفسه تم استنفار عناصر التنظيم الطلابي في الجامعات والثانويات، وجرى اختيار أبو حسن قاسم قائداً للمحور، وأصبحت منطقة الجامعة العربية منذ سنة 1973 حتى سنة 1982 بعهدة التنظيم الطلابي لحركة "فتح"، هذا الجسم الذي بقي شهرين في مواقع ثابتة حتى انتهت الأحداث، ثم أُنيطت به مهمة حراسة المنطقة تحسباً لأي اعتداءات إسرائيلية مثلما حدث في عملية فردان، وبات ضرورياً إيجاد تشكيل يضم قائداً لهذه المنطقة.
أتاحت هذه المعركة نوعاً من الاندماج الأكبر والحوار الأعمق بين المجموعات المشاركة، فبعض النخب كان يعرف بعضه، لكن بما أن الجميع يأتون الآن إلى الكمائن والمواقع يدفعهم الواجب، فقد كان ضرورياً أن يكون هناك معسكرات للتدريب، ويجب أن نعدّ دورات عسكرية وتثقيفية. من جهة ثانية كانت الحركة الوطنية اللبنانية، أو اليسار اللبناني، يشهدان في داخلهما تفاعلات كبيرة ناجمة عن حرب حزيران / يونيو 1967، إذ راحت مجموعات كبيرة من اليسار تترك منظماتها، مثل الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي، إلخ.. بعدما وجدوا أن المكان الذي يمكّنهم من ممارسة قناعاتهم الجديدة فيه هو "فتح". وقد انضمت عشرات المجموعات والتشكيلات ومئات الاشخاص من اليسار اللبناني إلى "فتح"، كما انضمت مجموعات أُخرى الى الجبهتين الشعبية والديمقراطية. قطاع كبير من هذه المجموعات وجد في الإطار الطلابي، البوتقة التي يمكن التفاعل معها والاندماج فيها، باعتباره ينهض على حالة ثقافية محددة ونقاش فكري، ويوفر ممارسة عملية على الأرض سواء في اتجاه كفر شوبا، أو في اتجاه الجامعة العربية، أو مخيمات العمل في الجنوب اللبناني.
وقد حملت هذه الحالة الطلابية الفتحاوية توجّهاُ يسارياً له طابعه الخاص المختلف تماماً عن التوجهات اليسارية المنتشرة، إذ كان هنالك صراع جانبي واسع بشأن أيديولوجيا اليسار واستراتيجيته وخطه السياسي، الأمر الذي سمح بانضمام عدد من المجموعات اليسارية وافراد: لبنانيين وعرباً من ذوي الاتجاهات الماركسية اللينينية والمتأثرون بأفكار ماو تسي تونغ، وهو ما أوجد بُعداً فكرياً أيديولوجياً إضافياً لهذا التيار. لم يعد الموضوع مقتصراً على الهم الفلسطيني، أو على جانب محدد من القضية، ومن هنا أعتقد أننا بدأنا ندخل إلى مرحلة نشوء هذا التيار.
العامل الثاني الحاسم كان حرب تشرين / أكتوبر، التي كانت حرباً عظيمة كسرت أسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي، وأدت إلى مجموعة من النتائج بعضها إيجابي وبعضها الآخر سلبي، لكنها دفعت بمسألة جديدة إلى مسرح الحوار، إذ أثبتت أن التضامن العربي شيء مفيد للقضية الفلسطينية وليس مضراً لها، وأنه عند وجود انقسام عربي تصبح الضربات متوقعة ومحتملة للواقع الفلسطيني. موضوع التضامن العربي لم يوافق عليه الجميع لأن البعض كان يصنّف العرب بين رجعيين وتقدميين، ويضع الرجعيين في مرتبة التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني، وهنا حدث فرز جديد.

حرب تشرين نقطة تحوّل
نقطة أُخرى مهمة: النتائج السياسية لحرب تشرين / أكتوبر بدأت تفرز تسوية، إذ وضعت الجبهة الديمقراطية برنامجاً تبنّته "فتح"، وهو ما يعرف ببرنامج النقاط العشر، لكن في الحقيقة كانت الجبهة الديمقراطية بمثابة دورية الاستطلاع في هذا الشأن. لقد خلق برنامج النقاط العشر حالة من الحوار في صفوف اليسار حتى في مجموعتنا، وأدى الى تباين بشأنه. نحن كنّا ضد عملية التسوية بالكامل وضد برنامج النقاط العشر وضد شعار السلطة الوطنية، ولكن هذه الملامح جميعها أضافت بعداً جديداً إلى تركيبة التيار. وبدأت موضوعات أُخرى تطرح بالتدريج، مثلاً، موضوع الاستقلالية وعدم التبعية، لأن مجموعات اليسار الأُخرى راحت تنحاز أكثر في اتجاه الاتحاد السوفياتي. وبدأت تظهر ملامح لتيار فكري مختلف في الساحة الفلسطينية، وهذا التيار خرج منه ناجي علوش وأبو داود، وأعتقد أن الخلاف الأساسي كان معهما على موضوع التضامن العربي، وعلى موضوع القيادة الفلسطينية بحد ذاته، لأن مجموعتنا رأت أن القيادة الفلسطينية هي قيادة وطنية وليست قيادة خائنة ولا قيادة منحرفة، وأنه يوجد سقف للتقاطع والتعامل معها، ونقاط نختلف معها وأُخرى نتفق معها. أمّا تطورها المستقبلي فمفتوح على أكثر من احتمال، وذلك على الرغم من المؤشرات التي حملها برنامج النقاط العشر إلى التوجه نحو التسوية، فالمسألة، ومنذ بداياتها، كانت تتعلق بالموقف من القيادة، وما إذا كانت في موقع قتال العدو، وقد امتد ذلك حتى مدريد وأوسلو في سنة 1993، أي كان هنالك عشرون عاماً من إمكان التقاطع معها وقتال العدو الصهيوني. إن ميزة "فتح" الأساسية أنها وفرت مساحة ومجالاً للعمل حتى للأشخاص الذين لا تتفق القيادة الفلسطينية معهم 100%. ففي جامعة بيروت العربية كنا نسلط مكبرات الصوت الخاصة بالجامعة في اتجاه مكتب أبو عمار الذي كان يبعد 50 متراً، ونظل ننتقد ليلاً ونهاراً النقاط العشر ومشروع السلطة الوطنية، ومشروع الدولة الفلسطينية... وفي آخر الليل يدعونا أبو عمار إلى الاجتماع فنتكلم ونختلف ونتفق وينام أبو عمار بحراسة بنادق الذين يعارضون البرنامج أو المشروع السياسي الذي طرحه. واستمرت القيادة الفلسطينية تنام بحراسة بنادق السريّة الطلابية من سنة 1973 حتى سنة 1982.
نقطة مفصلية أُخرى في ذلك الوقت مثّلها معسكر مصياف في سورية. فقد قررنا أن ننشئ معسكراً تثقيفياً وعسكرياً لإعادة تأهيل وتدريب التنظيم الطلابي ككل، وأذكر أنه كان في نهاية كانون الأول / ديسمبر 1973، وكان المطر لا ينقطع طوال أيام مكوثنا، وجاء إلى المعسكر مجموعة من المثقفين والمفكرين من أجل تنظيم الندوات والتدريب، إلخ. وكان الدكتور أبو عمر حنّا هو المسؤول السياسي للدورة، لأنه كان عضو لجنة الإقليم المشرف على التنظيم الطلابي، كما جاء ناجي علوش ومنير شفيق وقدري وآخرون. وحضرت أعداد كبيرة من الناس إلى المعسكر. عرف أبو عمار بهذا الموضوع، وجاء في إحدى الليالي إلى المعسكر مباشرة، وبدأ حوار في ظل المطر والجو العاصف. وكان يوجد في المعسكر أكثر من 150 شاباً وشابة توزعوا بين أغلبية وأقلية؛ الأغلبية في اتجاه الخط الذي نطرحه، في مقابل أقلية يتزعمها أنيس النقاش وفيصل علمي.
جاء أبو عمار كي يطرح إشكالية حرب تشرين، وأن ثمة تسوية قادمة بعد الحرب، فهل نكون جزءاً من هذه التسوية أو لا نكون؟ وكان رأيه أنه يجب أن نكون جزءاً من هذه التسوية، ويجب أن نقبل بدولة فلسطينية ولو في مدينة أريحا فقط.

س: هل يمكن أن تحدثنا عن كيفية تطور النقاش مع أبو عمّار؟
ج: حصل نقاش حاد مع الأخ أبو عمار، وكان رأينا أن موقفه غير صحيح ويستهدف حرف الثورة الفلسطينية عن أهدافها الكبرى، وأننا لا نستطيع أن نقيم دولة فلسطينية إلاّ على مناطق نحررها بقوة الكفاح المسلح، وأن منظمة التحرير وُجدت لتحرير فلسطين، أمّا الأراضي الفلسطينية التي احتُلت في سنة 1967، فإن واجب استعادتها يقع أيضاً على الدول العربية التي احتُلت هذه الأراضي وهي تحت وصايتها، مثل غزة بالنسبة إلى مصر والضفة الغربية بالنسبة إلى الأردن. وإذا تمكنت هذه الدول من استعادتها من دون منظمة التحرير التي تمثّل الشعب الفلسطيني في العودة وفي الشتات، إلخ، يصبح حق تقرير مصيرها للفلسطينيين. كانت هذه المسألة هي قمّة الخلاف الشديد مع أبو عمار لدرجة أنه قال: يعني الضفة الغربية تريدون أن تتركوها للملك حسين، أنتم الهاشميين الجدد؟ وغادر المعسكر منزعجاً لأنه رأى أن هناك أغلبية كبرى ضده، واتهم الدكتور أبو عمر ومنير شفيق والآخرين بأنهم هم الذين حرضوا الشباب والطلاب، إلخ. وأعتقد أيضاً أن هذا المعسكر كان علامة فارقة لأنه فرز بشكل كبير الخط السياسي عند جزء كبير من الشباب في اتجاه المستقبل. وبعد ذلك مباشرة انفجرت الحرب الأهلية في لبنان.

الماوية والتضامن العربي
س: أين كانت الماوية في التشكيل الجديد؟ كيف دخل تبنّي أفكار ماو تسي تونغ في اللعبة؟ المجموعات كلها التي تحدثت عنها، من أبو فارس إلى ناجي علوش كانت تتبنّىالماركسية وهذا مفهوم، لكن متى دخل عنصر التجربة الثورية في الصين؟ أنت معين طاهر متى فكرت أنك ماوي، أو ماركسي؟
ج: أنا لا أستطيع أن أقول أنني كنت ماوياً على طريقة ميشال نوفل، أو إيدي زنانيري. نحن، مثلما قلت سابقاً، دخل إلى مجموعاتنا جزء لا يستهان به من الكتلة اليسارية اللبنانية، سواء كأفراد أو مجموعات. على سبيل المثال: بعض الإخوان مثل هلال رسلان ومجموعة الجبل كلها كانوا يفكرون في إنشاء الحزب الشيوعي العربي، وهؤلاء دخلوا كتلة ولم يدخلوا كأفراد، دخلوا عشرات ومئات، وكان لديهم أفكارهم الخاصة في هذا الموضوع، وكثيرون ممّن تركوا منظمة العمل الشيوعي كان لديهم أفكارهم اليسارية في هذا الاتجاه [....] فضلاّ عن أن الأخ منير شفيق أدى دوراً أساسياً في تكريس هذا المفهوم من خلال كتبه في التناقض والممارسة واستلهام بعض التجارب التي خاضها ماو تسي تونغ، والثورة الصينية والثورة الفييتنامية، إلخ. ونحن على مستوانا كسريّة طلابية أو ككتيبة طلابية، لا أذكر أننا ناقشنا قصص عصابة الأربعة أو الثورة الثقافية في الصين، ولم تكن ضمن برنامجنا، حتى قصة الإمبريالية الاشتراكية لم تكن في جدول أعمالنا الفكرية. بالنسبة إلينا لم تكن المسألة أكثر من أن نحافظ على استقلالية الثورة الفلسطينية بعيداً عن محاور الاستقطاب الدولي، لأن محاور الاستقطاب الدولي تقود إلى حرب باردة، وبالتالي إلى تجميد القضية الفلسطينية، ويجب ألاّ نكون جزءاً من هذا الاستقطاب. بالنسبة إلينا كانت الثورة الصينية والماوية عبارة عن تجربة تحرر وطني نستلهمها في دروسنا، وليس لبناء حزب شيوعي ماوي أو تيار فكري شيوعي أو ماركسي لينيني، إلخ. هذا الجانب يمكن أن يكون موجوداً عند إخواننا الذين أتوا من المجموعات الأُخرى، لكنني لا أذكر أننا أرسلنا أي رسالة إلى الأرض المحتلة، أو إلى السجون، تكلمنا فيها على هذه الموضوعات. في التثقيف الداخلي كنا نركّز على الاستقلالية وخط الجماهير والكفاح المسلح وحرب الشعب، وعلى مجموعة من القيم والعادات، وعلى الموضوع الأهم المتعلق بالتناقض الرئيسي، علماً بأن الكتاب الأحمر كان موجوداً لدينا في جميع المواقع، ولدى المقاتلين كلهم. بكلمة أُخرى، أستطيع أن أقول إن الخط الذي تبنّاه حتى أولئك الإخوة الذين أصبحوا جزءاً من التيار، وكانوا من قبل يتبنّون أفكار ماو تسي تونغ، كان خطاً يتفق مع موضوعات طرحها ماو وهوشي منه، لكن كان هنالك موضوعات متعلقة بأوضاعنا، وقراءتنا الخاصة تختلف عن الخط الذي تتبنّاه الصين أو عدد من الحركات الماوية؛ مثلاً، كنا نعتبر الاتحاد السوفياتي صديقاً للثورة، لكن ليس حليفاً مع تأكيد الاستقلالية عنه. إن مراجعة جميع أدبياتنا وتقديرات الموقف التي كنا نتداولها تؤكد هذه الحقيقة، لكن مجموعات اليسار المؤيدة للخط السوفياتي كانت تعتبرنا ماويين بسبب هذا الموقف نهم كانوا يريدون الانضواء تحت السياسة السوفياتية بما فيها خط التسوية.

س: على أي أساس  تم الافتراق عن ناجي علوش وأبو داود؟
ج: المسألة الرئيسية في هذا الموضوع تتفرع إلى 3 نقاط:
اولى: الموقف من القيادة الفلسطينية واعتبارهما أن هذه القيادة خائنة، ونحن رأينا أنها قيادة وطنية.
الثانية: الخلاف بشأن العديد من المسائل في الأزمة اللبنانية، وللمثال: موضوع عزل الكتائب، والعلاقة مع موسى الصدر، وكيفية إدارة الأزمة اللبنانية بصورة عامة.
الثالثه: موضوع التضامن العربي ونظرتنا إليه.
في تلك المرحلة كنّا نرى ضرورة للتفاهم مع السوريين، بينما كان رأيهما مع آخرين أنه يجب أن يكون هناك صراع مع السوريين، وبالنتيجة التحقوا بمجموعة أبو نضال، ثم تركوا أبو نضال وأنشأوا الحركة الشعبية العربية وكان توفيق الهندي معهم. في هذه المرحلة بدأ الخط يأخذ شكله ومداه، وأصبح الموقف واضحاً من الأزمة اللبنانية وطريقة إدارتها، إذ عارضنا شعار عزل الكتائب. وكان البعض يستغرب كيف كنّا ضد عزل الكتائب، وكنّا في الوقت نفسه أشرس الناس في مواجهتهم! والجواب سهل وهو أننا نقاتل الكتائب دفاعاً عن مواقعنا ودفاعاً عن الثورة، وليس تحت شعار أن الطريق إلى فلسطين تمر بجونيه. كنّا نعتقد أن شعار عزل الكتائب يؤدي إلى عزل المجتمع المسيحي وإلى تقسيم لبنان، وهو لا يعزل الكتائب بقدر ما يقوّيها، ويجعلها ممثلة للمجتمع المسيحي، أي يعطي نتيجة عكسية للهدف المنشود من الشعار. كان رأينا أن الثورة الفلسطينية يجب أن تحاول بأسرع وقت ممكن الخروج من الأزمة اللبنانية وتوسيع إطار تحالفاتها بحيث لا تشمل فقط اليسار اللبناني، بل قوى تقليدية أيضاً مثل الإمام موسى الصدر والأطراف اللبنانية الأُخرى، مثل رشيد كرامي والمفتي والقيادات الإسلامية التقليدية.
أصبح لهذا التيار تشكيلاً عسكرياً بحكم الأزمة اللبنانية واضطرار أبنائه إلى الدفاع عن المناطق التي يسكنون فيها. مثلاً: الشباب في رأس النبع ومنطقة البسطة، اضطروا إلى الدفاع عنهما في مواجهة هجوم الكتائب من منطقة الأشرفية. والأمر نفسه ينطبق على الشباب في الجبل ومناطق أُخرى، فقد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يشكلوا ميليشيا محلية تدافع عن الحي الموجودين فيه، سواء في مواجهة اعتداءات الكتائب، أو حتى لمواجهة الزعران ومحاولات تهجير المسيحيين. لقد فرض تطور الحرب اللبنانية البحث في إطار عسكري ملائم.

س : جواد أبو شعر لم يعتبر نفسه جزءاً من هذا الإطار؟
ج: كلا لم يعتبر نفسه من الإطار. لم يكن الأمر مطروحاً، لكن مجمل الموضوعات التي كانت موضع نقاش لم نكن مختلفين معه بشأنها، حتى موضوعات الاستقلالية والاستقطاب، وموضوع التناقض الرئيسي. هذه الموضوعات كلها لم يكن هناك خلاف عليها. أنا أذكر أن اللقاء مع جواد أبو شعر كان يومياً، كل ليلة الساعة 11 قبل منتصف الليل نلتقي ونبقى معاً حتى الساعة 4 فجراً بعد الجولة على جميع المواقع؛ هو يذهب لينام ونحن أيضاً، ثم نلتقي في اليوم التالي. وحتى قبل استشهاده بلحظات كنا معاً في مكتب الشهيد سعد جرادات وقالوا له إن أبو عمار عاد إلى بيروت من السفر فذهب ليراه، وفي الطريق استهدفته قذيفة واستشهد بعد دقائق من مغادرتنا، وكان رحيله خسارة كبيرة، والمشروع الذي كنا نناقشه معه لربط وحدات الميليشيا مع قوات العاصفة توقف بعد استشهاده.

س: ماذا عن دور محجوب عمر هنا؟
ج: محجوب كان صديقاً قريباً جداً، لكن التيار كان عبارة عن جسم صغير في جسم أوسع؛ الجسم الصغير لم يكن فيه لا جواد ولا محجوب، لكن في الجسم الأوسع كان يوجد كل هؤلاء، يعني أننا كنا متفقين مع محجوب في جميع القضايا التي طرحناها عليه، حتى موضوع السلطة الوطنية والنقاط العشر، وتأكيد استقلالية "فتح" من الاحتواء السوفياتي، وانتهاج سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية والابتعاد عن سياسة المحاور العربية، وفي مجمل المواقف من الأزمة اللبنانية كانت المواقف متطابقة. كان محجوب، إلى جانب اقتناعه التام بقيادة "فتح"، وخصوصاً أبو عمار وأبو جهاد، حريصاً كونه مصرياً على ألاّ يدخل في صراع مع القيادة، وعندما يشعر بأنه لم يعد قادراً على احتمال بعض المواقف، كان يذهب لقضاء وقت في كتيبة نسور العرقوب بقيادة نعيم، والتي كان يعتبر نفسه أحد أفرادها.

س: تتكلم عن مجموعة صغيرة، مَن يحدد المهمات القيادية؟
ج: منير شفيق وأبو حسن قاسم وحمدي ومروان كيالي وهلال رسلان والدكتور عصمت وعلي أبو طوق ومحمود العالول ونذير أوبري وشباب من البقاع ومن الجبل وعدد من القيادات العربية المناضلة، فحجم النواة كان واسعاً، ولم يكن في هاجسنا أن نقيم تنظيماً بالمعنى التقليدي له أمين عام أو مكتب سياسي، أو أن نشكّل تنظيماً في داخل التنظيم، ولم يكن لدينا مخططات أو أفكار انشقاقية أو محاولات للسيطرة على القيادة أو انتزاع حصة منها، كان عملنا كتيار لا يتعارض رسمياً مع تنظيم "فتح"، وهدفه اسمى كان حمل كتف [المساهمة] في تجربة الكفاح المسلح على خطوط التماس، أو في داخل ارض المحتلة. كي أكون واضحاً، لم يكن لدينا مشروع أن ننشئ حزباً، ويجب أن نميّز بين التيار والحزب.
س: لكنه كان مشروعاً عربياً.
ج: كان مشروع تيار عربي، وكان يضم عرباً كثيرين، وفي فترة من الفترات كان عادل عبد المهدي، على سبيل المثال، في قلب تلك النواة، مع احتفاظه بتنظيمه العراقي. كان في المشروع شباب من تونس ومصر وسورية والعراق، وبالتالي تحولت الكتيبة إلى نقطة استقطاب، ليس فقط للعرب، بل حتى للإيرانيين والأتراك وبعض اليساريين الغربيين. أبو حسن قاسم، على سبيل المثال، كان القائد الميداني للتيار، فضلاً عن دوره النظري والسياسي المميز، أمّا الأخ أبو فادي [منير شفيق] فلم تُبنَ العلاقة معه على أساس معلم وتلاميذ، إذ كان أي شيء يكتبه منير شفيق يخضع لدراسة دقيقة ومتأنية من جانب مجموعة كبيرة من الناس، وتدور حوله مناقشات أحياناً حادة وتصحيحات وتصويبات، بحيث إن الكلام الذي ينشره كان يعبّر عن رأي المجموعة. كان منير شفيق يلتزم هذه القاعدة، ودوره كان، قطعاً، واضحا ًومميزاً ورائداً.

س: كيف تم تعيين سعد جرادات قائداً للسريّة، ومَن عيّنه؟
ج: تم اختيار سعد بالتوافق بيننا، وكان جواد يؤيد الذي نختاره. وقبل سعد كان القائد العسكري الفعلي لهذه المجموعة أبو حسن قاسم، لكنه ذهب في مهمة إلى الأردن تتعلق بمشروعه ازلي: إقامة قواعد ارتكاز في الأرض المحتلة. وسعد أصلاً كان المسؤول العسكري لشعبة الجامعة العربية، وأنا كنت أمين سر الشعبة. وكان يوجد شاب من الأرض المحتلة في طور إعادة تأهيل وتدريب كي يقود دوريته ويرجع بها إلى الأرض المحتلة، واسمه أبو الراتب، وتوافقنا عليه ليكون نائباً لسعد. وفي الحقيقة لم يصدر قرار من جواد أو من ياسر عرفات، ولا أحد منا في يوم من الأيام أتاه قرار أنه قائد لهذه المجموعة، حتى في وقت لاحق عندما أصبحتُ قائداً للكتيبة أو السريّة، ومروان نائباً لقائد الكتيبة، لم يعطنا أحد قراراً بشأن تعيين فلان أو فلان [....]. ميزة "فتح"، أنك موجود في حركة تختلف مع بعض سياستها، لكنك متفق مع قيادتها الوطنية على شيء أساسي اسمه تناقض رئيسي تقاتل من أجله، شيء اسمه حماية الثورة الفلسطينية تقاتل من أجله، ما عدا ذلك مسموح لك بأن تناقش وتختلف وتجتهد بما تراه ملائماً، وتتحمّل مسؤولية اجتهادك.

س: بعد استشهاد سعد تم تعيينك قائداً للسريّة، ألم يكن نائبه أبو الراتب؟
ج: أبو الراتب استشهد في وقت مبكر في حادث سيارة في الجبل. كان آتياً من المعسكر في بيصور، وانقلب به "اللاند روفر". قبل استشهاده أخذناه إلى بيصور كي يرتاح، وقد اقترب موعد دوريته إلى الأراضي المحتلة، وكان حمدي في عمّان هو والحاج حسن الذي كان قائداً لقطاع الأردن. الحاج حسن كان قائد قطاع الجليل في "فتح"، لكنه كان يذهب هو وحمدي وأبو حسن قاسم ومحمود العالول متسللين عبر الحدود لتجهيز دوريات لعبور النهر [نهر الأردن]. المشروع الأساسي للحاج حسن ولحمدي ولأبو حسن قاسم، كان إقامة قواعد ارتكاز داخل الأرض المحتلة، وأبو الراتب وعبد الرحيم وسعيد كانوا يستعدون لدورية إلى الداخل ضمن هذا المفهوم، وهنا تحضرني قصة بطلها أبو الراتب، إذ طُلب منّا إرسال فصيل للمشاركة في معركة احتلال الدامور، وقام الفصيل بقيادة أبو الراتب بالواجب العسكري المطلوب منه بكفاءة عالية، وبعد ذلك، عندما بدأت عمليات النهب والسرقة والتدمير وقتل بعض المدنيين، انسحب الفصيل من الدامور احتجاجاً على ما يجري. وكان قائد الهجوم على الدامور في ذلك الوقت أبو موسى الذي اتهم الفصيل بالفرار من المعركة، فاستدعاهم أبو إياد وأخبروه بما جرى ولماذا انسحبوا احتجاجاً، وأثبتوا له أنهم أدّوا واجبهم بالكامل، واحتلوا المنطقة التي طُلب منهم أن يحتلوها. عندها قال لهم أبو إياد: أنتم ضمير "فتح"، ونُشرت هذه الرواية على نطاق واسع.
بعد ذلك طُلب منّا أن نشارك كلما نشبت معركة في مكان ما، في الكحالة أو عاريا، وفي الجبل: في عينطورة وصنين. معارك صنين هي إحدى النقاط الأبرز في تاريخ الكتيبة، وقد استشهد فيها أبو خالد جورج من مؤسسي التيار والمتميز دوماً على مستوى النظرية والممارسة، كما استشهد في صنين نخبة من خيرة الشباب في السريّة مثل المهندس طوني النمس ومحمد شبارو وحمّاد حيدر وجمال القرى وحرب وحسنين. كانت الضربات مؤلمة وموجعة في صنين، ومع ذلك صمدنا فيها فترة طويلة. كان ذلك القاطع بقيادة أبو خالد العملة، وكنا على خلاف كبير معه بشأن خطة المعركة والرؤية الاستراتيجية [....]، وكان رأينا أنه يجب أن نتفادى المواجهة مع السوريين، وأن يتم التوصل إلى اتفاق جديد مع سورية، وهذه الحرب الأهلية يجب أن نحاول إيجاد حلول لها، وأن نتوجه نحو الجنوب اللبناني. هم كان رأيهم مع قطاعات من اليسار اللبناني أن الجبهة تمتد من صوفر إلى موسكو، وأطلقوا على قاعدتهم اسم الجيب احمر. في هذه الفترة سيطر يسار "فتح" مع فصائل من اليسار اللبناني على القرار السياسي والعسكري، وكانا يدفعان في اتجاه تحقيق حسم عسكري للحرب اهلية. أعتقد أن أبو عمار وأبو جهاد لم يوافقا على هذا التوجه، لكنهما لم يتمكنا من إيقافه. وفي عدة مرات كانت تنهال الصواريخ على بيروت الشرقية في اللحظة التي يعلن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ولعل أبرز هذه المرات ذلك القصف المجنون الذي سمّته جريدة "السفير" ليلة تأديب اشرفية، وكان ذلك رداً على اتفاق حمله أبو الزعيم من الكسليك، وحمل في طياته تنازلات جوهرية من المعسكر المسيحي للمقاومة والحركة الوطنية. وقد اتُّهم عرفات بأنه بهذا الاتفاق يخرق قرار عزل الكتائب.
استشهد سعد في معركة البرجاوي، في محاولة لفك الحصار عن تل الزعتر، وتم ذلك في الليلة نفسها التي كان من المفترض أن يتقدم لخطيبته. وتم اختياري قائداً للسريّة في مرحلتها الجديدة، فأدركت أولاً أنه يجب تنظيم هذه القوة المبعثرة التي تمتد من الخندق العميق حتى صنين والجبل.
طلبنا من الأخ أبو جهاد أن يستبدل قوتنا في صنين بقوة أُخرى، وبدأنا بتجميع قوتنا في معسكر بيصور، لإعادة تأهيلها وتدريبها بعد سقوط عشرات الشهداء خلال المواجهات. وفعلاً، لم يمضِ على انسحابنا من صنين أسبوعان حتى سقطت جبهة صنين ـ عينطورة التي كان يدّعي أبو خالد العملة أنها ستصمد أشهراً، فانهارت في غضون دقائق، ومن دون اشتباك، عقب أول وجبات القصف الصاروخي السوري، وانسحبت القوات بلا نظام في اتجاه رأس المتن والعبادية التحتا.
بانهيار جبهة عينطورة ـ صنين استعاد أبو عمار وأبو جهاد القيادة الفعلية للقوات وإدارة الصراع مع السوريين، وضَعُف ضغط الحركة الوطنية عليهما.

س: أنت كقائد للسريّة جمعت الشباب في بيصور؟
ج: طبعاً كان ضرورياً أن نعيد تنظيم السريّة في ظل تقدير للموقف أن ثمّة معركة قادمة مع السوريين، ولا بد من خوض هذه المعركة كي نتمكن من فرض وقف لإطلاق النار يتبعه وقف الحرب الأهلية، وأن ثمة معركة أُخرى ستليها، لكن هذه المرة في الجنوب حيث تتابعت التقارير التي تفيد بتوسيع الجيب الحدودي الذي يقوده سعد حداد. بدأنا باستطلاع الجنوب قبل مواجهة بحمدون، ورتّب أدهم جولة مع أبو ميسون (عبد الحسن امين) وعلي يوسف، فاستطلعنا منطقتَي بنت جبيل وصور بالكامل، واجتمعنا ببعض اهالي، وعلمنا أن هنالك تهديدات جدية من حداد لبنت جبيل وحانين. عدنا إلى الجبل ونحن نعلم أننا نحضّر أنفسنا لمواجهة مع سعد حداد في أي لحظة ينفّذ تهديده ضد تلك المنطقة، الأمر الذي يتطلب أن نرسل جزءاً من القوة إلى منطقة الجنوب، ووضَعْنا أبو جهاد في الصورة.
في هذه الأثناء بدأنا الاستعدادات لمعركة بحمدون بإشراف مباشر من خليل الوزير (أبو جهاد)، وتم تعيين مسعود، وهو أحد قادة القوات، قائداً لبحمدون [مسعود أصبح قائداً لميليشيا صور لاحقاً]. بدأنا بتنفيذ خطة لتحصين مواقعنا في بحمدون التي كانت بقيادة محمود العالول، ومعه مجموعة كبيرة من الشباب بمَن فيهم عدنان أبو جابر وغيفارا اللذان قاما بعمل التحصينات الهندسية وزرع الألغام والسواتر الترابية بإشراف هلال رسلان وأبو حسن.

س: هل كان شفيق الغبرا معهم؟
ج: نعم كانوا مجموعة كبيرة تضم نحو 60 أو 70 شاباً، وبينهم عمار وفلاح وصابر ومنصور وأبو علي، ومجموعات من اللجان الوطنية في الجبل وآخرين (خبر كانوا؟؟؟). بدأنا نستعد لمعركة المواجهة في بحمدون، وكانت المواجهة على الخط الرئيسي وفي منطقة الفيلات والقصور. واستشهد لنا الإخوه منير قانصو ويوسف جواد، طالب الدراسات العليا في ألمانيا.

س: هل كنت معهم؟
ج: أنا كنت في بيصور. أول ساعات المعركة في الليل تحركت مع أبو جهاد من بيصور إلى بحمدون واجتمعنا بالشباب هناك، علماً بأن المعركة انتهت مساء اليوم الثاني في بحمدون. أمضينا الليل مع الشباب، وعدنا مرة أُخرى إلى بيصور، وبدأت بترتيب خط الدفاع الثاني بعد بحمدون، وهو على جسر السكة عند ضهور العبادية، مدخل عاليه في اتجاه الكحالة. تموضعت مجموعات في تلك المنطقة، وهنا أذكر حادثتين في اليوم الثاني بعد معركة بحمدون: الأولى رواها أحد الإخوان وكان على حاجز السكة، فقد رأى سائق سيارة أجرة قادماً من بحمدون يتوقف عنده قائلاً أريد أن أقابل مسؤول الموقع، فقال له أنا المسؤول، وإذا بالسائق يبلّغه أن الضابط السوري فوق يقول لكم إنكم مكشوفون له، وإذا أتته تعليمات بإطلاق النار فإنه يستطيع أن يؤذيكم، فاختبئوا. الحادثة الثانية تتعلق بأهمية تقدير الموقف السياسي في العمل العسكري، ذلك بأن الجيش السوري قام بتحركات توحي بعزمه على التقدم في اتجاه مواقعنا، فطلبت من مسؤول اللاسلكي في كيفون، مقر قيادة أبو جهاد، أن يرسل برقية إلى الشباب، مضمونها تقدير للموقف كنا قد تناقشنا فيه مع أبو حسن وأبو محمود ومنير وباقي الإخوة. في ذلك الوقت كانت البرقيات كلها تحوي طابعاً عسكرياً مباشراً، فبعثت ببرقية فيها تقدير موقف عن أهمية الصمود 24 أو 48 ساعة لأنه خلال هذه الفترة سيُعقد اجتماع عربي على مستوى القمّة يؤدي إلى وقف إطلاق النار، وإلى وقف الحرب الأهلية، وسنتفرغ بعد ذلك لمهمتنا الرئيسية، وهي القتال ضد العدو الصهيوني، ولذلك يجب أن نحافظ على مواقعنا ونثبت بها أياً تكن التضحيات والخسائر. مأمور اللاسلكي اعتبرني مخبولاً كأنه يتساءل: مَن هذا الذي يأتي ليعطيني هذه البرقية في هذا الوقت؟! أبو جهاد كان موجوداً وقلت له أريد أن أرسل برقية ومأمور اللاسلكي لا يريد أن يرسلها، فقرأها وقال له: أرسلها على الفور وعمّمها على الجميع لأنها أهم برقية. وتم عقد مؤتمر الرياض، وتقدير الموقف كان دقيقاً وتوقّف القتال. في تلك المرحلة انتهت معركة بحمدون وتحقق الاتفاق العربي على إرسال قوات الردع العربية.
لم نكن قد شرعنا في تفكيك مواقعنا على السكة وفي ضهور العبادية عندما قصف سعد حداد بنت جبيل وأوقع فيها عدداً من الشهداء، ووجّه إنذاراً إلى أهلها بالاستسلام. قررنا أن الأوان آن كي نتحرك نحو الجنوب. اجتمعنا مع أبو جهاد الذي كان على معرفة بالاستطلاع الذي قمنا به سابقاً، وكان ما زال غير متيقن من أن المعركة مع السوريين انتهت، وأن وقف إطلاق النار سيصمد، فطلب منّا الاستعداد للتحرك والانتظار قليلاً، وعند منتصف الليل تيقن أن وقف إطلاق النار ثبت، فأرسل رسالة فحواها أن تتحرك كامل السريّة الطلابية إلى منطقة بنت جبيل. لم تأخذ ترتيبات التحرك أكثر من ساعة أو ساعتين، وقد توجهنا في قافلة إلى بنت جبيل مباشرة، وهي منطقة تقع ضمن مسؤولية القطاع الأوسط الذي كان قائده الشهيد بلال ونائبه الشهيد نور، لأن القطاع الأوسط كان ما زال متموضعاً شرقي صيدا جرّاء المعارك مع القوات السورية، ولا توجد أي قوات لا من الحركة الوطنية ولا المقاومة الفلسطينية في منطقة الشريط الحدودي كلها حتى منطقة صور.
وصلنا إلى منطقة بنت جبيل مباشرة، وارتفعت معنويات الأهالي، وبدأنا بالانتشار على تلال مسعود وصفّ الهوا، وفي وسط البلدة، وفي عيناتا ورشاف، وساعدنا الشهيد حسان شرارة ورفاقه من أبناء بنت جبيل الذين قاتلوا معنا في مواقع متعددة، وأول شخص جاء إلينا أبو الفتح الذي كان في حينه مسؤول ميليشيا التنظيم في تلك المنطقة، وكان عملياً وحده، ولم يكن بيده قوة تنفيذية، وبعد ذلك في المساء أتى الشهيد نور.

س: كم كان عددكم؟
ج: كنا نحو 200 شخص، وتمكنّا من منع قوات سعد حداد من التقدم. طبعاً قبل وصولنا بيوم واحد كانت حانين قد احتُلت، وهُجّر جميع سكانها وأُحرقت، وهي بلدة علي يوسف الذي أخذنا إليها قبل أسبوع. وأطلقنا مجموعة فاعليات لإرباك سعد حداد: دوريات قتالية وعمليات استطلاع كي نُشعره بأن ميزان القوى تغيّر في تلك المنطقة، وذلك لتتمكن قوات المقاومة الفلسطينية من أن تعيد تنظيم نفسها، وتنسحب من مواقع المواجهة مع السوريين، ومن الحرب الأهلية، وتعود إلى مواقعها في الجنوب. تحمّلنا فعلاً مسؤولية المنطقة وحدنا عدة أيام كي نستطيع أن نوقف تمدد سعد حداد.

س: هل الطلاب الذين أمسكوا المحاور في بيروت، ثم قاتلوا في صنين، لم يكونوا فدائيين محترفين، وجاء الانتقال إلى الجنوب كي يحوّلهم إلى فدائيين؟
ج: قرار الانتقال إلى القوات المحترفة لم يكن وارداً حتى لحظة نزولنا إلى الجنوب، لكن التحول إلى جزء من كتيبة عسكرية فدائية لم يكن وارداً. نحن ذهبنا إلى الجنوب بالذهنية إياها التي قادتنا إلى صنين وكل المواقع الأُخرى، إذ كان شعارنا هو: المناضل اصلب في الموقع اصعب. وعندما تبيّن أننا باقون في الجنوب، عاودنا البحث في الفكرة القديمة التي كنا متفقين فيها مع الشهيد جواد، وهي أن نحافظ على وضع التنظيم الطلابي والتيار في بيروت وفي مختلف المناطق اللبنانية، ويكون لدينا طليعة متقدمة مرابطة في الجنوب ملحقة بإحدى الكتائب هناك ويتم تبديلها باستمرار. للأسف قيادة الإقليم لم تقبل بهذه الفكرة، لأنها لم تكن مرتاحة إلى نمو هذه الظاهرة، وقالت يجب أن نختار إمّا الميليشيا وإمّا القوات، فاخترنا القوات، وأصبحنا كتيبة بعدما قرر عدد من الإخوة أن يتفرغوا كمقاتلين أو كجنود، وأن يحترفوا العمل العسكري بشكل كامل، لكن بقي كل التنظيم السياسي والخط السياسي، سواء في الجامعات أو في المناطق اللبنانية المتعددة، بمثابة رديف لهذه الوحدة، فما أن يعلن الاستنفار حتى يرتفع العدد من 200 إلى 400 أو 500 شخص يأتون من جميع المناطق والجامعات اللبنانية ومن الخارج، وهذه كانت حركة دينامية مع جبهة خلفية لم يتمكن قرار تنظيمي من أن يمنعها، أو يحدّ منها. وتجدر الإشارة إلى أن تشكيل كتيبة مقاتلة من الطلاب ومن الكوادر السياسية تضاف إلى قوات العاصفة، في الوقت الذي كان بعض الكتائب يتآكل من الداخل، كان إنجازاً فريداً واستثنائياً، وكان نجاحاً للخط الفكري والسياسي الذي تشكّل التيار على أساسه.
بالانضمام إلى القوات بدأنا تأهيل الكادر العسكري، ذلك بأننا جميعاً تعلّمنا الحرب في الحرب ولم يكن قد تخرّج من كلية عسكرية إلاّ عدد محدود من إخواننا الذين أرسلناهم في دورات خلال الحرب اهلية. وشجّعنا على هذا الاتجاه الشهيد أبو الوليد الذي أحاطنا برعايته وربطتنا به علاقة حميمة. أرسلنا علي أبو طوق ورياض إلى الصين، وجهاد إلى كوريا [الشمالية]، وخالد ومروان وحسام وأدهم إلى روسيا، وآخرين إلى فييتنام والجزائر والكلية العسكرية لـ "فتح"، وبعد ذلك ذهبت أنا إلى مدرسة المشاة الباكستانية في سنة 1979.

س: مَن الذي اختار اسم الكتيبة؟
ج:  جبل الجرمق هو أعلى قمة في فلسطين، وقد اخترناه لأنه يرمز إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني.

س: وماذا عن اجتياح 1978؟
ج: يبدو أن الأوضاع بدأت تنضج لعملية عسكرية صهيونية واسعة بعد أن فشلت جهود عملائه في الشريط الحدودي في توحيد جناحَي الشريط القليعة ومرجعيون مع رميش وعين إبل. وتمثّل ذلك في فشل ضغطه على القرى الحدودية ما بين جناحَي الشريط في الانضمام إليه، الأمر الذي دفعه إلى احتلال مارون الراس التي ترتفع 940 متراً عن سطح البحر وتشرف من جهة على فلسطين، ومن الجهة اُخرى على بنت جبيل وعيترون حتى أطراف تبنين. لم تكن لنا قوات في مارون الراس، وكنا قد توصلنا لاتفاق مع العائلتين الرئيسيتين فيها على تحييد البلدة أسوة بباقي القرى الحدودية.
في فجر يوم 2 /3 /1978 احتلت قوات سامي الشدياق المعززة بالدبابات مارون الراس، وأصبحت بنت جبيل واقعة تحت السيطرة بالنيران من البلدة، وبدأت حركة نزوح للأهالي، وكان الموقف صعباً ويعني في حال استمراره سقوط كل قرى الشريط الحدودي ووصل جناحيه ويحتّم علينا الانسحاب إلى أطراف تبنين.
كنا قد تدارسنا سابقاً هذا الاحتمال، ووصلنا إلى قرار أن علينا أن نستعيد مارون الراس فوراً ومن دون تأخير كي لا يتمكن العدو من تعزيز مواقعه فيها بحيث تصبح محاولة استعادتها صعبة ومكلفة. غادرت قيادة الكتيبة في تبنين إلى بنت جبيل التي كانت طرقها مقطوعة بالنيران والقصف المعادي. كان جهاد [شفيق الغبرا] قد بدأ استعداده للهجوم المعاكس. لم ننتظر أي تعزيزات من القوات الأُخرى كي لا يضيع الوقت، ورفضتُ اقتراحاً من قيادة القوات بتأجيل الهجوم إلى حين إنهاء الاستعدادات والحشد اللازم له. وصل بلال، قائد القطاع الأوسط إلى تبنين، وكانت علاقتنا معه قد أضحت شبيهة بعلاقتنا مع جواد، وطلبت الإسناد منه ومن خالد، ضابط عمليات تنسيق الإسناد مع واصف عريات، قائد المدفعية الثقيلة. تم شن الهجوم المعاكس في الساعة الواحدة ظهراً بقيادة جهاد عبر ثلاثة محاور صعوداً على الأقدام عبر المرتفع للسيطرة على مدخل البلدة وخراجها وتأمين الطريق العام الذي يربطها ببنت جبيل. ولأن القوة التي ستصل إلى مارون الراس ستكون منهكة، فقد دفعنا بقوة محمولة بقيادة عمّار للمحافظة على زخم الهجوم، كما قام رائد وفصيل الهاونات في الكتيبة بجهد مميز في الإسناد. وشاركت في الهجوم مجموعات من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن منظمة العمل الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي. ونجحنا في تحرير مارون الراس من دون أن نخسر أحداً، بينما فقد العدو 18 قتيلاً وعدداً من المدرعات التي تم تسليمها إلى جيش لبنان العربي، في حين سُلّمت جثث القتلى إلى الصليب احمر. وبذلك أصبح شمال فلسطين على مد البصر والحدود لا يبعد سوى أمتار، فقصف الصهيونيون مارون الراس ساعة كاملة، ثم ساد المنطقة بعدها هدوء كبير يسبق عاصفة بدأت تباشيرها تلوح في الأفق.
أنهت معركة مارون الراس الدور العسكرى لقوات حداد ـ شدياق، وأصبح لزاماً على الجيش الصهيوني أن يأخذ امور بنفسه. أمّا نحن فبدأنا نستعد للمواجهة المقبلة.
بعد عدة أيام، في 8 آذار / مارس 1978، جاءت عملية دلال المغربي، وهي فدائية في الكتيبة شاركت في معارك بيروت وانتقلت معنا من بيصور إلى بنت جبيل. في بيروت كان شبان وشابات الكتيبة من الجامعات يرابطون معاً في المواقع القتالية، أمّا في الجنوب فقد كان الوضع أصعب، وكان من تقاليد الكتيبة أن تحترم عادات الجمهور وتقاليده. حاولنا إنشاء فصيل نسائي بالكامل، لكن عدد اخوات لم يكن كافياً لذلك. ولم تقنع دلال بالعمل في المستوصف الذي تديره مجموعة مكونة من الدكتور خالد القادم من فرنسا وعقبة والأخت بهية، وينضم إليه بعض المتطوعات بين الحين والآخر سواء من أخواتنا أو من اصدقاء اجانب، ولا سيما النروجيين.
والمستوصف لم يقدم فقط الخدمات الطبية لبنت جبيل، بل للقرى الحدودية بما في ذلك القرى الخاضعة لسعد حداد، وبالتالي كان عبارة عن نقطة علاج طبي ونقطة للاتصال ونقطة أمنية؛ كانت مهماته متعددة. دلال لم تقنع بهذا الدور، وكانت تصر على أن تذهب إلى المواقع الأمامية وترابط هناك، فسمحنا لها بذلك، لكنها لم تقنع بهذا الدور أيضاً إذ يبدو أن طموحها كان أكبر، فانضمت إلى مجموعة الشهيد كمال عدوان وذهبت في العملية الشهيرة إلى الساحل الفلسطيني. وكتبت في وصيتها إشادة كبيرة بالشهيد سعد جرادات وبالكتيبة والتنظيم الطلابي.
بعد احتلال مارون الراس بدا التدخل العسكري الإسرائيلي أمراً واقعاً، وبعملية دلال المغربي حُسم الموضوع. خيّم صمت كامل على خطوط الجبهة وانعدمت الحركة في المستوطنات الصهيونية التي أُخليت من سكانها. وفي منتصف ليلة 14 آذار / مارس بدأ القصف الجوي والمدفعي على مواقعنا في مارون الراس وبنت جبيل. ومنذ ساعات المساء كانت برقيات ربحي في مارون الراس تتوالى وتفيد بأنه لأول مرة يرى تقدماً واضحاً لحشود آليات إسرائيلية، وأن الإسرائيليين ينطلقون من نقاط التجمع الخلفية لخط انتشارهم. بلّغنا قيادة القوات أن الهجوم الإسرائيلي سيقع الليلة، لأن العدو لا ينشر آلياته أمامنا إلاّ إذا كان يريد التقدم. لا أريد أن أدخل في تفصيلات العمل العسكري الذي حدث في منطقة بنت جبيل، لكن أريد أن أقول إن الشباب قاتلوا بضراوة شديدة في مارون الراس وفي جميع المواقع، واتّبعوا خطة ذكية لتجنّب القصف المعادي: العدو يتوقع أنه عندما يقصف موقعك أن تنسحب إلى الخلف، نحن تقدّمنا إلى الأمام، وبكلام آخر في مارون الراس تقدّم الشباب نحو الحدود الفلسطينية ـ اللبنانية، وبالتالي لم يصب أحد منا قط في القصف. حتى المواقع المحصنة في بنت جبيل غادرناها واتجهنا إلى الأمام. كانت النتيجة في مارون الراس أنه عندما التف العدو عليها ودخل إلى موقعنا اكتشف أن الموقع فارغ. كان جنود العدو يحتفلون ويرقصون، فأطلق الشباب النار عليهم وهم يحتفلون. واعترف العدو بحسب المصادر الإسرائيلية بسقوط 88 قتلى في مارون الراس نفسها، كما اعترف بخسائر كبيرة في بنت جبيل. كنّا متفقين على خطة قتال تراجعي، وهذه الخطة تقضي بامتصاص الصدمة الأولى، والصمود في مواقعنا أطول مدة ممكنة، ثم ننسحب إلى عقدة أُخرى وبعدها إلى عقدة ثانية إلخ، ثم نتوجه إلى عقدة كبيرة لمواجهة العدو الذي يكون قد تقدم قليلاً وشعر بأن العقد صغيرة، الأمر الذي يجعله يندفع بقوة فيفاجأ بعقدة كبيرة. وهكذا رتبنا القتال التراجعي بحيث يكون بعد بنت جبيل عقدة مثلاً في بيت ياحون، ثم معركة في تبنين، وعقدة في السلطانية وأُخرى في الشهابية، ثم معركة في جويا والعباسية. في بنت جبيل كانت خسائرنا كبيرة، لأن امتصاص الصدمة كلّفنا استشهاد أغلبية الشبان الذين كانوا في المواقع مثل تلة مسعود وتلة شلعبون، وبينهم الشهيد حسان شرارة والشهيد بشار فاعور والشهيد زيتون بزي والشهيد أبو خالد شحيمي والشهيد أبو وجيه عنداري [هؤلاء الشهداء تم اكتشاف أماكن دفنهم بعد تحرير الجنوب في سنة 2000 وأقيم لهم نصب تذكاري واحتفال كبير في بنت جبيل تكريماً لصمودهم وبطولاتهم]. استمرت معركة 1978 حتى آخر نقطتين قاتلنا فيهما وهما: جويا والعباسية. وفي العباسية ارتكب العدو مجزرة كبيرة، ومع ذلك فإن قتالنا في العباسية وجويا أقنع الإسرائيليين بأنهم إذا واصلوا التقدم إلى منطقة صور والمخيمات فهذا يعني أن قتالاً عنيفاً سيحدث، علماً بأن القتال من بنت جبيل حتى جويا والعباسية استمر 8 أيام، ولهذا سُميت حرب الأيام الثمانية، وكنا نقاتل في هذا القاطع مع الإخوة في القطاع اوسط بقيادة الشهيد بلال القائد الفذ والشجاع. وحالت هذه الخطة دون وصول الإسرائيليين إلى الليطاني، وبالتالي بقيت طريق صور ـ صيدا مفتوحة والمخيمات الفلسطينية خارج نطاق الاحتلال. وهنا أريد أن أشير إلى دور مميز قام به الشهيد علي أبو طوق الذي كان مسؤول الإدارة في ذلك الوقت، إذ لم يترك مجموعة واحدة تحتاج إلى تموين، أو إلى سلاح. لم نفقد بالمناسبة مستودع سلاح واحداً. وفي أحد مستودعات السلاح في منطقة البساتين في شبريحا، كان الإسرائيليون على بعد 50 متراً فوق مخزن السلاح، وعلى الرغم من ذلك تمكّن علي من أن ينقل المستودع كاملاً. لم نفقد قطعة سلاح واحدة، ولم ينقطع الاتصال بالمجموعات ولم نفقد التموين.
بعد انتهاء المعركة، عقد رئيس اركان الصهيوني في حينه مردخاي غور مؤتمراً صحافياً قال فيه إن الوحدات التي واجهتنا في بنت جبيل ومارون الراس تختلف عن جميع الوحدات التي واجهناها سابقاً، وتحدث عن شيء وصفه بأنه مهم وهو أنهم وجدوا في هذه المواقع نشرات تثقيفية ودروساً واستخلاص تجارب، واستنتج أنهم يواجهون نوعية مختلفة من المقاتلين.
انتهت معركة 1978 وانتشرنا على الخط الساحلي. وجاءت قوات الطوارئ الدولية وكان لدينا مخاوف من أن تنتشر قوات سعد حداد في مناطق قوات الطوارئ الدولية، فقررنا أن ننتشر قبل أن تصل قوات الطوارئ الدولية إلى منطقة الجنوب. تسللنا وانتشرنا في منطقة قوات الطوارئ، وعندما وصلت هذه القوات، وجدتنا أمراً واقعاً في المنطقة. دخلت منطقة دير قانون فوجدت أن لنا قاعدة فيها، ودخلت إلى شبريحا ووجدت أن لنا قاعدة فيها، وكذلك الأمر في قانا، فأصبحنا أمراً واقعاً، وصار لا مفر من تشكيل هيئة ارتباط بين قواتنا وقوات الطوارئ الدولية تولى قيادتها ضابط شجاع من إخواننا في جيش التحرير الفلسطيني هو الرائد محمد تمراز. خلال هذه المرحلة حدث نوع من المواجهة عندما حاولت قوات سعد حداد أن تتسلل بدعم إسرائيلي إلى بعض المناطق الحدودية، مثل منطقة خربة سلم وقبريخا، وبحيث يصبح وادي الحجير تحت سيطرتهم النارية. أرسلنا بالتعاون مع أهالي هذه القرى، مجموعات كانت تقيم هناك في بيوت الأهالي، وتحصل على تموين ودعم كاملين منهم، وفي الليل تذهب في دوريات إلى وادي الحجير والشريط الحدودي. وبقيت هذه المجموعات على هذه الحال 3 أو 4 أشهر لدرجة أن الإسرائيليين كانوا خائفين من التقدم في اتجاه هذه المناطق، معتقدين أننا نضع كمائن لتنفيذ عمليات أسر للجنود. كنا نتحرك بلباس مدني من دون إنشاء أي قاعدة ثابتة؛ كانوا أشخاصاً بلباس مدني ننقلهم كل يوم أو ثلاث من بيت إلى آخر، وبهذه الطريقة لا حاجة إلى سيارات تموين أو سيارات عسكرية لتكون موضع مراقبة. استطعنا فعلاً أن نمنع أي انتشار لقوات سعد حداد داخل منطقة قوات الطوارئ الدولية طوال تلك الفترة، واستطعنا أن نحافظ على علاقات طيبة مع ضباط قوات الطوارئ الدولية، وحتى التعاون معهم لنقل أسلحة وذخائر إلى داخل الأرض المحتلة. نفّذنا عشرات عمليات النقل من خلال قوات الطوارئ الدولية، واكتشف الإسرائيليون واحدة منها فقط، وكان لمحمد تمراز دور كبير في تنسيق ذلك بالتعاون مع أبو حسن وحمدي.

س: ذهبتم إلى بنت جبيل، وكنتم في الأغلب مثقفين ومتعلمين ولديكم مؤهلات، وما عرفناه هو أنكم كنتم تلتزمون نظام قِيَمٍ في القواعد وفي العلاقة مع الأهالي. هل يمكنك أن تحدثنا عن نظام القيم هذا؟
ج: المفروض أن تكون كل "فتح" على هذا المنوال، نحن كنا نركّز أكثر على قواعد السلوك الأخلاقي، فكنّا نعتبر الاعتداء على الناس اعتداء علينا، لم نتسامح قط مع أي كان في هذا الشأن، حتى لو اضطررنا إلى التهديد بالقوة، أو على الأقل التلويح بالقوة لمنع هذا التصرف. أريد أن أقول إننا في تجربتنا كلها في الجنوب اللبناني كنا نصطدم بتجار المخدرات واللصوص، وكانت هذه الحوادث تنتهي سريعاً؛ التجاوزات على الأهالي ممنوعة منعاً باتاً بغضّ النظر عمّن يرتكبها، واضطررنا أحياناً إلى التهديد بالاشتباك مع وحدات من "فتح"، ومن فصائل أُخرى اعتدت على أهالي، أو على أملاك عامة. كنا نحارب كل محاولات الاستقواء على الأهالي بالسلاح، الأمر الذي أوجد علاقة متينة بيننا وبين اهالي، وقد ساعد على ذلك، فضلاً عن المسلكية الثورية، موقفنا الإيجابي من حركة المحرومين وعلاقتنا بالسيد موسى الصدر.
ومن جهة ثانية، هناك سمات محددة لمنطقة الجنوب كما لكل منطقة في لبنان. ففي جميع المناطق توجد انقسامات، كما في أي مجتمع، ويوجد صراع وتنافس بين العائلات، وهناك عائلات تنقل ولاءها من فصيل إلى آخر، ومن حزب إلى حزب آخر. ونحن في هذا الموضوع لم نكن نحمل موقفاً مسبقاً؛ نعرف أن لنا حلفاء من الفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن نعادي الخصوم السياسيين لهذه الفصائل. بكلام آخر، إذا كان العراق يخوض حرباً ضد إيران فهذا لا يعني أن نسمح لجماعة البعث أو جبهة التحرير العربية بأن تشتبك مع الإسلاميين الشيعة المؤيدين لإيران، ولا نقبل أن نصبح أسرى لهذا الموقف. لذلك قمنا بتجربة بدت غريبة في بنت جبيل تحديداً، وبعد ذلك في مناطق الجنوب كافة. حركة أمل كانت تبدو قوة صاعدة في الجنوب اللبناني، وكانت أحزاب الحركة الوطنية، ولا سيما الحزب الشيوعي، تعتبر الجنوب قاعدتها الأساسية، وترى أن الرصيد الذي كانت تحصل عليه حركة أمل يقتطع فعلاً من رصيد فصائل الحركة الوطنية، الأمر الذي أوجد حالة من العداء بين الطرفين، تحولت سريعاً إلى اشتباكات بالسلاح.
في منطقة بنت جبيل بدأنا حواراً مع حركة أمل علماً بأنه كان لنا تجربة سابقة مع الحركة من خلال أول معسكر تدريب لها، إذ إن المدربين كانوا من عندنا واستشهد فيه أحد إخواننا وهو مجاهد الضامن، فضلاً عن تجربة كفر شوبا والعلاقة مع السيد موسى الصدر. فتحنا نقاشاً وحواراً مع الدكتور مصطفى شمران الذي أصبح أول وزير دفاع في حكومة مهدي بازركان في إيران، وهو كان مدير المؤسسة العاملية في صور. طبعاً كان هناك كثير من المخاوف والهواجس عند حركة أمل من جهة، وعند الآخرين بما في ذلك "فتح" من جهة أُخرى. أقنعنا الدكتور مصطفى شمران بأنهم يجب أن يكونوا في المواقع القتالية. وفعلاً بدأت حركة أمل ترسل مجموعات كي ترابط معنا في منطقة بنت جبيل، وصار لديهم مجموعات دائمة هناك، حتى الدكتور مصطفى شمران جاء مع هذه المجموعات، وهذا التطور كسر جزئياً حدة التوتر القائم. وفي الوقت نفسه أقمنا علاقات مع الفاعليات الأُخرى، وفي مقدمها والد السيد محمد حسين فضل الله السيد عبد الرؤوف فضل الله، وكنا نحرص على زيارته باستمرار في منزله في عيناتا، وكان لنا علاقة أيضاً مع رئيس البلدية والمختار ونواب المنطقة. لم يكن هناك حدود أو حواجز لإقامة مثل هذه العلاقات مع الجميع ما دامت تخدم الاستقرار المجتمعي أو المدني، وتمنع أي احتكاك سلبي، وتحقق الصمود في وجه العدو. وكان للشهيد حسان شرارة دور كبير في تنسيق هذه الاتصالات، فضلاً عن دوره القتالي والقيادي المميز.
هذه الأمور نجحت في مرحلة أولى، لكن في مرحلة تالية عندما ازداد التوتر واندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية، وبدأ نفوذ حركة أمل يطغى، تحوّل الموضوع إلى حالة من الاشتباكات المسلحة في سنوات 1980 و1981 و1982، وتورطت فصائل فلسطينية في هذه الصراعات بين حركة أمل من جهة، وفصائل الحركة الوطنية من جهة أُخرى. كان موقفنا حازماً ضد الذين يرتكبون التجاوزات بصرف النظر عن الجهة التي ينتمون إليها، مثلاً في منطقة كفرتبنيت قتلت عناصر من حركة أمل اثنين من حزب العمل وهما ذاهبان إلى موقعهما في أرنون. اتخذنا موقفاً حازماً وأكدنا أن هذه جبهة ضد العدو الصهيوني، ومن غير المسموح ارتكاب مثل هذه الأعمال فيها، وألزمنا حركة أمل بأن تسلّم الشخصين المسؤولين عن عملية القتل كي يُسجنا ويحوّلا إلى المحاكمة. لكن في مناطق أُخرى وقعت اعتداءات وقصف على القرى، فقرية ما على سبيل المثال، إذا اعتُبرت محسوبة على حركة أمل، كانت تُقصف بالصواريخ والهاون. في إطار موقفنا الحازم فعلاً كنا نحرّك قوة حتى لو كانت القرية المعنية خارج إطار الوجود الجغرافي لنا، نحرك قوة ونمنع انفلات العنف المسلح، لكن هذا بكل أسف أدى إلى تغيير وظيفتنا، إذ كان لدينا في ذلك الوقت واجب قلعة الشقيف وكفرتبنيت وحرش النبي طاهر، الأمر الذي يعني أن المواجهة الأساسية كانت مع قوات سعد حداد والعدو الصهيوني، لكن نصف الكتيبة أصبح منشغلاً بفض الاشتباك في أنصار وزفتا وأنصارية والصرفند بحيث إذا واجهت أي مجموعة مشكلة في المنطقة، فإن علينا أن نذهب نحن للمعالجة. يذهب معين أو مروان أو أبو الفتح كي يحل المشكلة في صيدا أو صور، وهذا استنزف كثيراً من الطاقة. كان لدينا سرية كاملة مهمتها حماية الخط الخلفي للقلعة وتتموضع على جسر القعقعية وجبشيت وزوطر، لأننا كنا نتوقع أن الهجوم الإسرائيلي لن يأتي مواجهة عبر جسر الخردلي، وإنما سيلتف عبر قوات الطوارئ الدولية ويندفع عبر القعقعية، وقد اضطررنا إلى نقل هذه السريّة كي تفك الاشتباك في أنصار، فتمكّن العدو من عبور جسر القعقعية بكل سهولة، ولم تتمكن السريّة من الاشتباك مع القوات الصهيونية سوى عند مداخل جبشيت.


ملحمتا  قلعة الشقيف
س: في القيم التي تكلمت عنها والسلوك المثالي الذي يعطي قدوة للناس هل يمكن أن نعتبر أن ملحمة قلعة الشقيف هي قمّة هذا السلوك عندما قرر الشباب أن يصمدوا ويقاتلوا وهم يعلمون أنهم لن يخرجوا أحياء من القلعة؟
ج: أعتقد أن هناك مجموعة قيم هي: القدوة الحسنة والتثقيف والوعي والخط الفكري والسياسي والقدوة النضالية؛ أن يعرف المقاتل بالضبط ما هي مهمته، وأن يعرف لماذا هو هنا وأهمية ما يقوم به. المقاتل الذي كان موجوداً في القلعة أو في أي موقع آخر كان يعرف كيف سيتصرف في كل لحظة، وكان على أعلى درجات الاستعداد واليقظة.

س: هل كان هناك قرار بالصمود حتى النهاية؟
ج:  كان قرارنا هو التشبث بقلعة الشقيف والتمسك بالمواقع الأُخرى في حرش النبي طاهر الذي كنا نعتبره باللغة العسكرية الموقع الأكثر أهمية لأنه يحمي القلعة ويشرف على النبطية، وفي كفرتبنيت وأرنون، لإسناد القلعة في معركتها.
كان معروفاً أن المقاتلين الذين تمركزوا في قلعة الشقيف لن ينسحبوا منها، والمواقع الأُخرى مهمتها مساعدة الموجودين في القلعة للتمسك بها حتى النهاية.

س: ماذا تعني بعبارة "حتى النهاية"؟
ج: أعني أن المقاتلين الموجودين في القلعة سيقاتلون حتى آخر نفس، حتى الشهادة. أمّا القوات الموجودة في كفرتبنيت وحرش النبي طاهر وأرنون فمهمتها إسناد القلعة والاشتباك مع القوات الصهيونية في حال تقدّمها عبر جسر الخردلي، وهو كان محوراً لهجوم ثانوي قام به العدو. وكان يوجد سريّة أُخرى مهمتها الاشتباك قبل القلعة مع القوات الإسرائيلية التي تأتي من جهة جسر القعقعية في اتجاه القلعة، وهذه القوة كانت موجودة في أنصار لفك الاشتباك بين أمل والحركة الوطنية، واشتبكت مع الإسرائيليين في منتصف الطريق على أبواب جبشيت، في حين دفعنا بقوة أُخرى من النبطية للتصدي للقوات المعادية التي بدأت تتقدم من زوطر في اتجاه أرنون حيث تصدت لها مواقعنا هناك. وتموضعت فصيلة دبابات من كتيبة شهداء أيلول كانت ملحقة بنا في التلال المحاذية للحرش، وفي مواقع معدة مسبقاً، وبدأت بالتعامل مع القوة المعادية المنتشرة بين زوطر وأرنون. وكان خيارنا أن نقاتل حتى الشهادة.
كانت خطة التحصين في القلعة مُعدّة على هذا الأساس، وكانت تتطور يومياً بفضل الجهود الجبارة التي بذلها المقاتلون بقيادة علي أبو طوق، وبفضل الدعم المتواصل من الجبهة الخلفية على مدى عامين، ويكفينا فخراً أنه، وعلى الرغم من حدة القصف التمهيدي الجوي والمدفعي والصاروخي المعادي، ثم قصف مدفعية الدبابات المباشر، لم يسقط لنا شهيد واحد، لكن استشهد جميع المقاتلين في الاشتباك المباشر، ومن مسافة أمتار قليلة، ومن خندق إلى خندق.
في سنة 1980 صدرت إلينا التعليمات بالانتقال إلى النبطية والقلعة بعد غارة صهيونية عليها. وصلنا إلى المنطقة فجراً، وانتشرنا تحت القصف الجوي والمدفعي المعادي، وانسحبت كتيبة بيت المقدس التي كانت ترابط فيها لإعادة التنظيم. ومن يومها باتت المنطقة ورشة عمل لا تنتهي: الأخوات من بيروت يعبئن أكياس الرمل على البحر وينقلنه إلى المواقع اماميه، والمشغل المركزي يصنع لنا هناغر حديدية ندفنها في ارض لتكون ملاجئ من القصف، وقد أحضر طلاب الهندسة في الجامعة مخططاً قديماً للقلعة مكّننا، على الرغم من التدمير الصهيوني لمعالمها، من معرفه أسرارها وأين يمكن أن نحفر وفي أي اتجاه، وأشرفوا على عمليات التحصين والحفر المستمرة ليلاً ونهاراً ومن دون توقف وبوجود عشرات المتطوعين من مختلف المناطق وتحت القصف المستمر. وكانت النتيجة أنه، وخلال عامين من القصف بما فيها حرب الاستنزاف حتى الاجتياح، سقط لنا شهيدين فقط. ولذا، كتب المقاتلون على مدخل القلعة: بناها بوفور وحررها صلاح الدين وغيّر معالمها علي أبو طوق.


س: القلعة تجربة إنسانية استثنائية، إذ قرر المقاتلون أن يصمدوا حتى النهاية. مَن كان قائد مجموعة القلعة؟
ج: الشهيد يعقوب سمور [راسم] ومعه 34 مقاتلاً. الجميع استشهدوا بعد قصف إسرائيلي مدمّر وقتال بطولي تكبّد فيه الإسرائيليون خسائر غير متوقعة. كان قائد الهجوم الإسرائيلي جوني هارينك الذي قُتل في الهجوم، وعندما جاء بيغن وشارون إلى القلعة فوجىء بيغن بحجم الخسائر الإسرائيلية وانزعج كثيراً. وعندما صعد بيغن إلى الطائرة لم تمض ثوان حتى اكتشف الإسرائيليون أن هناك مقاتلاً فلسطينياً جريحاً ما زال في قيد الحياة. وقد تحرك المقاتل الجريح وأطلق النار عليهم من بندقيته من دون أن يصيب أحداً على ما قالوا، وأطلقوا عليه الرصاص فاستشهد.. تصوروا لو أن هذا الحادث وقع قبل ثوان بوجود بيغن في القلعة؟

بين الاجتياحين والثورة الإيرانية
س: بين الاجتياحين بدأت حركة الأسلمة وانفتحتم على الإسلام.. الإسلام الشيعي بدأ صعوده، وكانت بداية انحسار الوجود الفلسطيني في الجنوب. ألا تجد مفارقة هنا؟ وكيف نحلل هذه المفارقة التي لها علاقة بنظرية القاعدة الأمنية في الجنوب اللبناني؟
ج: فتحت الثورة الإسلامية في إيران أعيننا على شيء جديد:. النظرية الرائجة في ذلك الوقت أن الإسلاميين، أو الناس الذين يؤمنون بالإسلام السياسي، يمثلون شيئاً رجعياً، لكن الثورة الإسلامية في إيران أكدت أن ثمّة إمكاناً كبيراً لأن يكون الإسلام ثورياً ويحشد طاقات وجهوداً، ويتحول إلى عمل ثوري أو تقدمي، ويساهم في عملية التحرير. لا أستطيع أن أقول أن الذي حدث عندنا هو انتقال إيماني بالمفهوم العقيدي الديني بقدر ما هو انتقال سياسي، أي رفد دينامية التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني بطاقة ثورية كبيرة.
كان تقديرنا أننا أمام تغيير كبير في المنطقة؛ ذهب الشاه حليف إسرائيل وحدثت ثورة إسلامية. مفهوم الإسلام التقدمي أو الثوري يساهم في إحداث عملية تغيير في الصراع مع العدو الصهيوني والأميركيين في المنطقة، ومن هذه الزاوية ظهر اهتمام بالإسلام والفكر الإسلامي، وخصوصاً أن الجمهور المحيط بنا في الجنوب اللبناني ينتمي إلى مجتمع إسلامي شيعي متأثر مباشرة بالتجربة الإيرانية.
على المستوى العملي لم أشعر أن شيئاً أساسياً تغيّر في الكتيبة أو في طبيعة عملنا بصورة عامة، لأن القيم التي كانت موجودة بيننا بقيت هي إياها ولم تتغير. يمكن أن بعض الإخوان، وعلى المستوى الفردي، تقدموا أكثر من غيرهم في المستوى الإيماني وأداء الشعائر، اذ في داخل أطر الكتيبة لم تكن موضوعات، مثل الماركسية أو الماوية، مطروحة للتداول. طبيعة العمل عندنا تجعل الأمور كلها تذهب في اتجاه عملي إلى درجة أنه عندما نعقد اجتماعاً لقيادة الكتيبة، فإن علي أبو طوق كان ينام من شدة التعب.
كانت تجري نقاشات أعمق على الأرجح في أجواء بيروت والشباب في الجامعة. أجواء بعض المناضلين حولنا عرفت مثل هذا النقاش بشأن الماوية والإسلام، والحقيقة أنها لم تؤثر في طبيعة العلاقات الداخلية الموجودة بيننا، ولا في طبيعة المهمات. هاجسنا كان مختلفاً كلياً.

س: أين كنت في مشروع الأسلمة؟
ج: أنا كنت في المشروع الوطني العام، وقريباً من الموضوع الإسلامي، وليس التحول إلى داعية أو فقيه . أنا أقول إن أي مشروع ثوري حقيقي في بلادنا إذا تجاهل الثقافة الشعبية الإسلامية والمخزون الكبير الذي يمثله الإسلام السياسي عند الناس ولم يعتبره أداة أساسية من أدواته التحريضية والنضالية، فإنه لا ينجح ولا يقدر أن يحشد.

س: لكن مشكلة الإسلام، أن هناك مذاهب وإسلامات كثيرة...؟
ج: لا مشروع يمكن أن يقوم ما لم يتداخل هذا المخزون الإسلامي العام مع الحركات القومية في بلادنا، وذلك بكل مذاهبه ومدارسه، فهي عملية توحيدية لجهود امة في اتجاه تناقضها الرئيسي، وتشمل المذاهب الإسلامية والمسيحيين والتكوينات القومية.

س: كيف انعكس ذلك على الكتيبة؟
ج: ككتيبة ، كانت المسألة أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران يُعتبر مخزوناً نضالياً جديداً يمكن أن يمدّ في عمر الثورة والنضال الفلسطيني، ويعجّل في الانتصار. منظومة القيم التي لدينا لم تختلف ولم تتغير كونها أساساً، قريبة من الثقافة العربية الإسلامية، بل هي ثقافتنا. وهنالك عدة أدبيات للتيار تشير إلى ذلك وفي فترات سابقة عن المد الإسلامي، فضلاً عن موقفنا العملي من أجل بناء أوسع جبهة حول المقاومة.

اجتياح 1982: الانسحاب والعمليات الفدائية
س: ماذا حدث بعد سقوط قلعة الشقيف؟
ج: بدأ القصف التمهيدي الصهيوني في 4/6/1982، وفي صباح 6/6 تمكنّا من إسقاط طائره من طراز "سكاي هوك" في منطقة كفرتبنيت، وأُسر الطيار واسمه أهارون بخعازي وتم تسليمه إلى القيادة في بيروت. أعيد الطيار ضمن صفقة الخروج من بيروت، لم يكن هنالك عملية تبادل، ولم نأخذ في مقابله شيئاً. وفي 6 حزيران / يونيو ظهراً بدأت تصل تقارير فحواها أن دبابات إسرائيلية تتقدم، فقررنا أن ننقل غرفة العمليات إلى نقطة ثانية، وهذه النقطة ممنوع أن تصلها سيارات، ممنوع أن يصل إليها أحد إلاّ سيراً على الأقدام لئلا تنكشف. وإذا بمسؤول أحد الفصائل يأتي بسيارته، ويقرر أنه بحاجه إلى بطارية جهاز اللاسلكي، ولم يكد يوقف السيارة حتى قُصفنا على الأرجح بصاروخ أرض ـ أرض فوراً. وفي اللحظة نفسها كان عامل اللاسلكي يتسلق الشجرة كي يثبت لاقط اللاسلكي فيها، فوقع واستشهد، وأنا جرحت مع شاب كان جريحاً سابقاً اسمه أديب. أصبت في قدمي، واخترقت شظية الطحال، وبقيت في الجسم. وجاء الطبيب الكندي دكتور يانو الذي رافقنا في النبطية وطرابلس وبقي مع الشهيد علي أبو طوق في مخيم شاتيلا، فكسر الباب وصنع من الخشب "جبارة" لقدمي، ونقلوني إلى صيدا، وكان الإسرائيليون قد قاموا بإنزال على صيدا وأغلقوا جميع الطرق إلى المدينة. وفي ذلك اليوم التقيت شباب الجبل، وطلبت منهم أن يستطلعوا الطريق الخلفية بين الجنوب والشوف، إذ كان تقديرنا أن طريق الساحل ستسقط بالقصف في أول عملية اجتياح حتى لو لم يتقدم الإسرائيليون. وقبل خروجي من النبطية، وقع اشتباك على مدخل النبطية مع الدبابات الإسرائيلية المتقدمة في اتجاه القلعة. أرسل الإسرائيليون دورية استطلاع في اتجاه النبطية، فضربناها على مدخل النبطية. بدأت تتضح معالم الاجتياح، وبدأت الاشتباكات تدور من مسافات قصيرة، فقمنا بإجلاء فصيلة رشاشات 23 ملم محمولة إلى صيدا للحفاظ عليها، وعندما وصلت فصيلة الرشاشات هذه إلى صيدا كانت تلة شرحبيل المشرفة على صيدا قد وقعت بيد العدو، فحدث هجوم معاكس على التلة، واستعانوا بهذة الفصيلة لاستعادة التلة. في هذه الأثناء عرف حمدي والإخوان أني أصبت فتحرك هو واثنين من مرافقي أبو جهاد بسيارة إسعاف من الهلال الأحمر برفقة شاب من شباب الجبل على الطريق التي استطلعوها، وعندما وصلوا إلى صيدا كانت الطريق مفتوحة.

س: كم من الوقت بقيت مفتوحة؟
ج: الهجوم المعاكس حررها لـ 30 دقيقة دخلوا خلالها إلى صيدا كي ينقلوني من المستشفى، وكنت قد خرجت لتوي من غرفة العمليات في مستشفى غسان حمود. وضعوني في سيارة الإسعاف وأخذوني إلى بيروت، بينما عاود الإسرائيليون الهجوم على تلة شرحبيل. كنت أشاهد من السيارة النار والقذائف حولنا، وكان سائق أبو جهاد [شريف] هو الذي يقود سيارة الإسعاف بسرعة، وأنا أقول له خفف السرعة، لأنه كلما أسرع كنت أتألم كثيراً، وحمدي يقول له لا تُصغِ إليه. الحمد لله وصلنا إلى المستشفى في بيروت، ووُضعت في غرفة قريبة من غرفة زوجتي التي كانت قبل يومين قد وضعت طفلتنا اولى. وبقيت فيها حتى خروجنا منها بعد الحرب. وفيما بعد اعتقل الصهيونيون الدكتور يانو في صيدا، وأخضعوه لتحقيق قاس لمعرفة مكان وجودي، ولم يصدقوا أنني غادرت صيدا في هذه الدقائق المحدودة.

س: والشباب؟
ج: الشباب في اليوم التالي فجراً بدأوا الانسحاب بالتدريج على شكل مجموعات عبر إقليم التفاح، ولم يكن أحد يعلم أين ستكون حدود الاجتياح الإسرائيلي. بدأوا بإخلاء المواقع في النبطية والنبي طاهر وكفرتبنيت، وانسحبوا بصورة متدرجة عبر إقليم التفاح، حتى وصلوا أخيراً إلى البقاع. كان الانسحاب منظماً واستمر الاتصال مع كافة المجموعات بفضل شجاعة أخت كنا وضعنا في بيتها في منطقة الزرارية محطة لاسلكي حافظت عليها على الرغم من احتلال المنطقة، واستمرت تقوم بواجبها حتى وصلت كل المجموعات بسلام. استمرت عملية الانسحاب 4 أو 5 أيام قبل أن يعود المنسحبون إلى تعزيز منطقة الجبل. آنذاك وافق أبو جهاد على اقتراح إرسال حمدي ومحمود العالول من بيروت كي يتولّيا تنظيم المقاومة في منطقة الجبل أمام الزحف الصهيوني. وفي البقاع أصبحت المهمة الجديدة للشباب هي استيعاب المتطوعين الجدد، وتعزيز منطقة الجبل، وإمداد بيروت، والشروع في عمليات خلف الخطوط، وكانت أول عملية دونّها علي أبو طوق في يومياته في 23 حزيران / يونيو.

س: الكتيبة انسحبت، كم كانت خسائرها؟
ج: 50 شهيداً في قلعة الشقيف وأرنون وكفرتبنيت والنبطية وجبشيت، وعدداً محدوداً من الجرحى، ولم يؤسر لنا أحد كما لم يستسلم أحد.

س: الشباب في الجبل قاموا بعمليات ضد الإسرائيليين؟
ج: هذه العمليات ضد الإسرائيليين تجاهلها الجميع ولم يتكلم عنها أحد باستثناء كتاب يتيم لمحمد حمزة دوّن فيه البرقيات التي أُرسلت إلى العمليات المركزية والوحدات العسكرية المتنوعة. إذا عدنا إلى المصادر العبرية نكتشف أنه في الفترة من أواسط أو نهاية حزيران / يونيو 1982 حتى نهاية سنة 1983 ومعارك طرابلس، كان حجم خسائر الإسرائيليين في هذه العمليات أكبر من حجم خسائرهم في الاجتياح كله. والأمر اللافت أيضاً أن حجم خسائرهم في تلك السنة يوازي حجم خسائرهم في جميع عمليات المقاومة لاحقاً وحتى انسحابهم من لبنان، والسبب أن الإسرائيليين في تلك الفترة أخذتهم نشوة الانتصار ولم يرتبوا أنفسهم، وكانوا ينتشرون على مساحة واسعة جداً من الأراضي اللبنانية، الأمر الذي جعلهم هدفاً سهلاً.

س: لماذا لم يتم التحدث عن هذه العمليات ولم يبرزها أحد؟
ج: أعتقد أن القرار كان إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وبالتالي ليس من مصلحة أحد أن يتحدث عن عمليات تلك المقاومة في لبنان، سواء خلال حصار بيروت أو ما بعد الخروج من بيروت. ثانياً: وقع الانشقاق، وما دام يوجد انشقاق، فإن الحديث لا يصح عن عمليات المقاومة، وخلافاً لذلك في ظل عملية الانشقاق كنا حريصين على ألاّ تتوقف العمليات ضد الإسرائيليين؛ كنا نفصل ما بين المسألتين. ثالثاً: المقاومة في لبنان يفترض أن تقدّم نمطاً خاصاً، ولا يجوز أن يجري الحديث عن مقاومة من نمط آخر غير هذا النمط الخاص! أكثر ما كان يجري الحديث عنه عملية الويمبي، لكن لم يتكلم أحد عن عملية باص عاليه التي خطط لها علي أبو طوق بالتعاون مع إخوتنا في الجبل، والتي أوقعت60 إصابة إسرائيلية. أو باص عرمون والشهيد كمال النعلاوي وعشرات العمليات اُخرى. حتى عملية أسر 8 جنود صهيونيين في رويسة البلوط من دون إطلاق رصاصة واحدة، وهذه أكبر عملية أسر في تاريخ المقاومة، وقد مرت مرور الكرام.

س: مَن الذي قام بالعملية؟
ج: دورية تابعة لمجموعة اخ محمود العالول، وبمساعدة من مجموعات الجبل من رفاق هلال رسلان (أبو محمود)، حيث كان لنا باستمرار في تلك المرحلة مجموعة من قواعد الارتكاز والاستطلاع.

س: كيف تمت العملية، وكيف تم أسرهم؟
ج: تسلل الشباب إلى كمين إسرائيلي، وكان الجنود في حال استرخاء. اعتقد الجنود أن القادمين جاؤوا للتبديل أو التعزيز. وصلوا إليهم وكانوا يتحدثون بالعبرية والفرنسية [قائد المجموعه طالب درس في الجزائر]، وفجأة سحبوا عليهم السلاح وأسروا أربعة، وقبضوا على الأربعة الآخرين داخل مهجعهم وجعلوهم يسيرون أمامهم بعد تكبيلهم وتحميلهم سلاحهم فوق ظهورهم. والسؤال كان كيف يتم نقلهم إلى البقاع وسط الحواجز السورية؟ مرّوا بموقع للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، واستخدموا سيارات القيادة العامة في نقلهم إلى البقاع، وفي مقابل ذلك أخذت الجبهة أسيرين لتسهيل المرور عبر الحواجز السوريه. كان الأمر جيداً، وتمت مبادلة الأسرى خلال حصار طرابلس. طبعاً تبادل الأسرى أفرج عن أسرى أنصار كلهم، بل أغلق معتقل أنصار كلياً، وأطلق جزءاً محدوداً من الأسرى في الداخل، أمّا عملية القيادة العامة، فيما بعد، فنظفت تقريباً السجون في الداخل، عند مبادلة الأسيرين اللذين كانا عندها.
اسيران لدى القيادة العامه أُخذا إلى الشام، أمّا بالنسبة إلينا فكانت المشكلة هي أين سنحتفظ باسرى؟ كيف تحتفظ بـ 6 جنود إسرائيليين في البقاع، في وقت كنا محاصرين بين شتورة ومدخل سعدنايل ـ تعلبايا؟ هذه المنطقة لا تتعدى مساحتها كيلومترين، ومن الصعب أن تخبئ فيها 6 جنود إسرائيليين. وأيضاً، أين سنأخذهم في ظل الانشقاق والمعارك مع المنشقين والجيش السوري الذين يريدون الأسرى، والإسرائيليون خلفنا يريدون الأسرى! صار العالم كله يدور حول مصير 6 أسرى! مسألة الأسير غلعاد شاليط لدى "حماس" أثارت هستيريا لدى المؤسسة امنية الصهيونية، واعتُبر نجاح "حماس" في الاحتفاظ بمكانه سراً إنجازاً كبيراً، نحن لدينا 6 أسرى كيف نخفيهم؟ نضعهم في مكان ونضع حراسة فننكشف في اليوم التالي! بمجرد وجود حراسة في المكان، بمجرد أن ترسل الطعام، أو تحضر طبيباً! باختصار خبأناهم عند الناس، عدنا إلى خط الجماهير، خط الشعب؛ وزّعناهم على البيوت، يقيمون في غرفة ويأكلون من طعام البيت ولا أحد يأتي عندهم، ولا أحد يتفقدهم، وإذا لاحظ الجيران شيئاً نغيّر أماكنهم، ونبحث عن مكان آخر. خبأناهم أكثر من عام، وهذه فترة ليست قصيرة، وبدأت الدائرة تضيق علينا كثيراً، البقاع لم يعد منطقة آمنة، ولذلك هرّبنا الستة إلى طرابلس على الرغم من وجود الحواجز الكثيفة، هرّبناهم واحداً واحداً، وأخرجناهم من طرابلس بعد عام. أن تخبىء 6 جنود ضمن دائرة كيلومترين هذا بحدّ ذاته إنجاز كبير. ويبقى أن العمليات خلف الخطوط، أو عمليات المقاومة الفلسطينية ـ اللبنانية خلال الفترة 1982 ـ 1983، لا أحد يتكلم عنها، حتى اليوم.

الانشقاق والانسحاب الإسرائيلي من الجبل
س: كيف جرت عملية الانسحاب من البقاع؟
ج: عدت من العلاج قبل الانشقاق بـ 4 أيام، وخلال الانشقاق حاولنا أن نتوسط وقلنا لهم تعالوا نتكلم ونتفاهم. شكّلنا لجنة كان فيها مروان كيالي ومازن عز الدين وآخرون للحوار والاتفاق ولم تنجح. كان واضحاً أن قراراً يدفع المنشقين إلى مهاجمة مواقعنا ورفض أي حوار. بدأوا بمهاجمة مواقع قوات اليرموك، فأرسلنا تعزيزات إلى بعض هذه المواقع، مثلاً في دير زنون استشهد 3 شباب ونحن نحاول أن ندافع عن قيادة قوات اليرموك. بعد ذلك شعرنا بأن الأمور ستفلت، وأن السوريين والمنشقين سيتمكنون من اختراق معظم الوحدات الموجودة، إذ ليس من الضروري أن يكونوا قد ضمنوا ولاءها، لكن لو كان عندهم 3 أو 4 عناصر، وهؤلاء يطلقون النار من قلب الوحدة، ثم يهاجمونها من الخارج يحدث ارتباك ويأخذونها. كان زياد الأطرش في البقاع، وأخذنا قراراً جريئاً يقضي بفرط كل الوحدات الموجودة في المنطقة التي كنّا نتمركز فيها، وإعادة تشكيلها من جديد. وفي هذا الوقت كان جزء كبير من مواقعنا في الجبل مكرساً للعمليات خلف الخطوط الإسرائيلية. كان لدينا مواقع في صوفر، 4 أو 5 قواعد في الجبل بشكل أساسي، وقد حافظنا عليها. فرطنا كل الوحدات العسكرية الموجودة في المنطقة، وأعدنا تشكيلها بحيث وضعنا عناصر منّا في كل وحدة من الوحدات وفي كل موقع من المواقع، فلم يعد هناك إمكان لأن يقع خرق. في هذه الحالة توقف التمدد العسكري للانشقاق بعدما حاولوا من دون جدوى أن يلتفوا علينا باحتلال منطقة جديتا، فهم في حال أخذوا جديتا، وهم موجودون أصلاً في دير زنون والمصنع، نصبح محاصرين في تعلبايا وسعدنايل، ولذلك قمنا بهجوم معاكس عليهم في جديتا وأسرنا 90 شخصاً. تركنا أسلحتهم معهم وأعدناهم في اليوم التالي. كان موقفنا دفاعياً دوماً، ولم نبادر إلى الهجوم قط. في معركة جديتا انتهى إمكان الحسم العسكري للانشقاق لمصلحتنا، وحدث تطور كبير في المنطقة، إذ قرر الإسرائيليون الانسحاب من الجبل. وفي هذا الوقت، كانت الجبهتان الديمقراطية والشعبية تتوليان ترتيب اللقاءات مع المنشقين، وتتداخل الوساطات [....]، فجلست أنا ومروان وأبو موسى وأبو خالد العملة وأبو أكرم [....] وقلنا لهم: أنتم تقولون إن أبو عمار يريد أن يسحب القوات من الساحة اللبنانية، وإنكم تريدون استمرار الكفاح المسلح، نحن وأنتم لا نريد أن تخرج القوات من لبنان، ونريد أن نستمر في الكفاح المسلح. لماذا لا نشكّل كتيبة مشتركة، نحن وأنتم، وليكن قائدها من طرفكم ونائبه مروان، ولا همّ لهذه الكتيبة إلاّ قتال العدو، ولنصدر معاً بياناً نعلن فيه انتهاء أزمة الانشقاق وتوجيه جهودنا نحو العدو، ووحدة قوات العاصفة تطالب القيادة الفلسطينية بعقد مؤتمر عاجل لحل أي إشكالات داخلية، وأن هذه القوات لن تغادر الساحة اللبنانية وساحة الصراع، ونطالب بعودة القوات التي أُخرجت من بيروت إلى هذه الساحة.
لقد تبين أن قرارهم ليس بيدهم، إذ توقفت اللقاءات بعد هذا الاجتماع. فقررنا أن ننقل قواتنا ونهرب من معركة الانشقاق بالصعود إلى الجبل حيث يمكن قتال وتعقّب القوات الإسرائيلية المنسحبة. بدأنا نُخرج قواتنا من البقاع إلى الجبل، كل يوم نخرج 10 أو 20 أو 30 مقاتلاً ونجعلهم يتسللون خلف المواقع الإسرائيلية إلى بيصور والعبادية وكيفون وقبرشمون وكل الضيع الأُخرى، وأنشأنا قوة مشتركة، نحن والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية وجبهة التحرير الفلسطينية. وكان لدينا مشكلة أن قوات اليرموك، قوات نصر يوسف، كانت معزولة بسبب السوريين في منطقة رياق، فصار لزاماً علينا أن نجلب هذه القوة كي نخلي البقاع كلياً، إلى المناطق حيث لا يستطيع السوريون أن يلحقوا بنا. فعلاً ذهبت أنا ومروان إلى الجبل، وتركنا زياد اطرش وجمعة وسميح وعلي أبو طوق في البقاع. أشرف علي أبو طوق على نقل قوات اليرموك من رياق حيث صنع جسراً من أنابيب الصرف الصحي فوق النهر وراح ينقل في الليل قوات نصر يوسف كلها إلى منطقتنا. وخلال هده الفترة بدأ العدو بالانسحاب من الجبل، بينما كانت قواتنا مندفعة مباشرة إلى بيصور وإلى قبرشمون، تاركين وراءنا جماعة أبو موسى وأبو خالد العملة في صوفر وبحمدون.
في قبرشمون كانت المعركة الرئيسية مع الجيش اللبناني، وتحديداً اللواء الرابع الذي درّبه المارينز، واستشهد منّا في ذلك الاشتباك ومن الجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية وجبهة التحرير الفلسطينية 70 عنصراً، لكن اللواء الرابع دُمّر وذهبنا إلى قبرشمون، بينما بدأت البارجة نيوجرسي تقصف، ووصل الشباب إلى حي السلم والشويفات. السوريون أحسوا أن قوات اليرموك خرجت من الطوق وأصبحت معنا، وأبو عمار عرف أننا أصبحنا في الشويفات وحي السلم، وأن الطريق إلى بيروت مفتوحة، فجاء إلى طرابلس، وعُزلت قوات أبو موسى وجماعة القيادة العامة ولم يبق لديها أي وجود. حتى عندما كنت تذهب إلى غرفة العمليات التي أنشأها وليد جنبلاط، فإنك تدرك أنهم يتعاملون مع المقاومة الفلسطينية، مع القوة المشتركة التي أنشأناها وسمّينا ممدوح نوفل ومروان ممثلين لها، لأننا القوة الفعلية التي تعمل على الأرض. لكن مجيء أبو عمار إلى طرابلس أخاف السوريين، فقد أحس حافظ الأسد بأن الأمور تفلت من يديه، فأخذ فوراً قرار حصارنا وإخراجنا من البقاع. تحركت الدبابات السورية لتحاصرنا [....]، فأخرجنا 200 مقاتل إلى الجبل، لكن بقي 400 إلى 500 مقاتل في البقاع ولم يكونوا قد خرجوا بعد، فحاصرهم الجيش السوري وأنذرنا بأنه يجب أن نخلي البقاع فوراً تحت عنوان اذهبوا في اتجاه طرابلس. اتصل بي زياد وعلي وطلبا حضوري فوراً. وصلت من الجبل إلى البقاع بصعوبة. كنا محاصرين تماماً من الجيش السوري مباشرة. لم يعد في الإمكان تهريب القوات إلى الجبل كما خططنا سابقاً. كان أمامنا خياران لا ثالث لهما: إمّا أن نخوض معركة مع السوريين في منطقة ضيقة بين تعلبايا وسعدنايل، وإمّا أن نتجه إلى طرابلس. أبو عمار طبعاً كان رأيه أنه يجب أن نشتبك مع السوريين في البقاع، أمّا نحن فاجتمعنا وقررنا أن الاشتباك مع السوريين في كيلومتر مربع في تعلبايا لن يجدي، وإنما هو أقرب إلى الانتحار. اتصلنا بمحمود العالول الذي كان في طرابلس وبلّغناه قرارنا. حاولنا أن نساوم ونماطل. وجاء غازي كنعان لعندنا، وتعارك مع امرأة على باب الكتيبة كانت تُنزل اللعنات على حافظ الأسد وعلى غازي كنعان، وظل هو يشتمها وهي تشتمه [....]. جاء يتأكد أننا نرتب أنفسنا للخروج.
خرجنا من البقاع وكان ذلك شبيهاً بخروج المقاومة من بيروت، إذ كان الناس على طول الطريق من سعدنايل إلى تعلبايا ورياق يستقبلوننا بالزغاريد والأرز والورود. وصلنا إلى الهرمل في المساء، ووجدنا اخ طراد حمادة يقف في وسط الطريق، ويصرخ: توقفوا لأن السوريين يريدون أن يحتجزوكم في منطقة جباب الحمر، ابقوا هنا.
انتشرنا على جهتَي الشارع، بينما كان السوريون يحركون قوة إلى المنطقة التي يريدون أن يحاصرونا فيها، وهذه المنطقة هي فعلاً مثل الصحن وحولها مجموعة تلال يسيطرون على أغلبها، الأمر الذي يعني أنهم يضعونا تحت رحمتهم الكاملة. انتشرنا وعندما جاء السوريون قلنا لن نتحرك من هنا.
في ذاك الوقت ذهبت عشائر الهرمل إلى الرئيس حافظ الأسد وقالت له إذا كنت تريد أن تذبح الفلسطينيين فلماذا تأتي بهم لعندنا حتى تذبحهم؟! في اليوم التالي أرسل طراد مجموعة من الشباب إلى الجرود، وشق بالجرافة طريقاً تخرجنا من هذا الكمين في اتجاه طرابلس، وقال إذا وصلتم الى الجرود فوق لا يقدر أحد على أن يلحق بكم. وجاء غازي كنعان مجدداً فدعانا طراد إلى الغداء معه على نهر العاصي، فقلت لطراد لن أذهب ولن أُعيد تجربة البقاع لأن غازي كنعان اعتقل نصر يوسف، وإسماعيل عنبة في دعوة مشابهة قبل خروجنا من البقاع.  قال: يعلم أنكم عند العشائر ولذلك لن يفعلها، لن يأخذكم من هنا.
لبّيت الدعوة فصار غازي كنعان يناور؛ يلقمني الطعام بيده ويقول أريد أن أطرح عليك سؤالاً: لماذا يحبكم الناس في البقاع؟ لماذا الناس يحبونكم أنتم أهل الكتيبة؟ أجبته: لأننا نصدق مع الناس، ولا نضايقهم ولا نعتدي عليهم، الناس يريدون السترة، وإذا عاملتهم كما يجب يعطونك. ناورنا نحن أيضاً، فبدأنا نبحث معه ترتيبات الإجازات والتنقل والتدريب في معسكرنا، أو معتقلنا، الجديد.
تحركنا في الليل كي لا يرانا السوريون بعد أن اتصلنا بقوة سميح نصر التي اقتادها السوريون قبلنا إلى المكان ذاته. رتبنا مسار القافلة بحيث إن السيارات المدنية والعسكرية المتهالكة كلها، تبقى في المؤخرة، لأنه إذا تعطلت سيارة واحدة، فهذا يعني أن الرتل بأكمله سيتوقف. لم يكن أحد في القافلة يعلم ما يجري، لكننا أفهمنا المجموعة الطليعية بقيادة أبو رحمة ما هي المهمة، وطلبنا أن تقوم بعمل الشرطة العسكرية على مدخل الجرد، فما أن تصل القافلة حتى تتجه السيارات كلها صعوداً، ولا يُسمح لأي سيارة بأن تتوقف في الأسفل. فعلاً رتبنا الموضوع، وخلال ساعتين أو ثلاث لم يبق أحد في "الصحن" الذي أرادوا لنا أن نحاصر فيه إلاّ بضع سيارات متهالكة. نمنا في الجرد حتى الفجر، وأتى الرعاة وأحضروا الغنم وذبحوه وأطعمونا. سألناهم عن الطريق إلى طرابلس فأرشدونا، ولم يكد يمضي قليل من الوقت حتى رأينا أبو جهاد قادماً من طرابلس إلى جرود الهرمل، ورتبنا معه الأمور، وطلبنا منه أن يرحل، فعاد إلى طرابلس فوراً. وكنا أبقينا نقطة مراقبة في الأسفل، فقالوا لنا إن قائد الفرقة السورية جاء ليتفقد، وسأل أين الشباب؟ فأجابوه أنهم يخافون من القصف الإسرائيلي، وهم منتشرون هنا. وأعتقد أنه بدأت تصل إلى السوريين أخبار تفيد بأننا ابتعدنا، ومعلوم أن في الخرائط لا يظهر عند السوريين أنه يوجد طرق. فما رأيناه إلاّ وقد تحرك في اتجاهنا حيث نتمركز، فجلسنا نتكلم معه مستعيدين الحديث السابق: كيف نرتب الإجازات، وكيف يتحرك القادة، إلخ. وعندما غادر قدّرتُ أنه فهم اللعبة، وأن ثمة جسراً يجب أن نعبره كي نذهب إلى طرابلس، وهو سيحرك قوات سورية في اتجاه هذا الجسر. حرّكنا قوة سيطرت على الجسر، وفوراً تحركنا عندما بدأ الظلام يحل. حرّكنا قافلة من 400 أو 500 مقاتل اجتازت الحواجز السورية من دون أن تتوقف. لم يحاولوا إيقافنا؛ لقد فوجئوا بحركتنا هذه على الأرجح، وفجراً كنا قد أصبحنا في مخيم البداوي. وصلنا إلى طرابلس ليبدأ فصل جديد.
كان مؤسفاً هذا الصراع في البقاع أو طرابلس مع المنشقين والجيش السوري، إذ كان مخالفاً لخطّنا ورؤيتنا ومبادئنا وأولوية الصراع ضد العدو الصهيوني، لكن ما يعزّينا أننا كنا دوماً في حالة دفاع عن النفس.

قواعد ارتكاز في الأردن.. ونحو الضفة
س: خلال المسيرة التي كنت تتحدث عنها وصولاً إلى طرابلس، أين كان أبو حسن وحمدي؟ ماذا كانا يفعلان، وكيف كانت ترتب الأمور؟
ج: أبو حسن وحمدي في هذه الفترة كانا في عمّان يعدّان العدة لإعادة تنشيط العمل داخل الوطن، فموضوع الأرض المحتلة كان حاضراً في الذهن، وفي جميع الأحوال التي مرت فيها المقاومة، حتى في فترة الحرب الأهلية في لبنان. وكان يجري إعداد الشهيد أبو الراتب والشهيد حسنين ومجموعة أُخرى من الإخوان كي يُنزلوا دورية إلى الأرض المحتلة. لم تكن عمّان في أي لحظة خالية من وجود عدد من الكوادر الأساسية، بما في ذلك حمدي وأبو حسن ومحمود وحتى الحاج حسن الذي كان قائد قطاع الجليل في "فتح" في ذلك الوقت، فجميعهم كانوا موجودين في عمّان في محاولة لإدخال الدوريات. والذي ساعدنا على ذلك أن جزءاً أساسياً من التنظيم الطلابي ممّن أهلهم مقيمون في الأردن، عندما يتخرج يجري إعداده ويتم إرساله مباشرة إلى عمّان للإقامة فيها ولعمل نقاط ارتكاز لاستيعاب الإخوان أو الدوريات أو السلاح الذي يأتي إلى الأردن، على الرغم من الأوضاع الأمنية الصعبة في تلك الفترة. الإخوان الذين استقروا في عمّان في هذه الفترة قاموا بجهد كبير جداً، وأصبح لدينا قواعد ارتكاز في الأغوار وفي عمّان وعلى الحدود، وكان لدينا مجموعة من جنود مجهولين اختصوا بعبور الحدود الأردنية ـ السورية. كان هناك يومياً وباستمرار أحد ما يعبر الأردن في اتجاه سورية كي يصل إلى لبنان، أو لينقل المتطوعين من المخيمات في الأردن إلى الكتيبة، أو كي يُحضر أفراد دوريات أو معدات من سورية إلى الأردن. كان لدينا عقبة في فترة من الفترات تتعلق بكيفية إخراج "الأغراض" من لبنان إلى سورية، وذلك بسبب وجود عدة حدود علينا اجتيازها: الحدود اللبنانية ـ السورية، والحدود السورية ـ الأردنية. ومن لبنان إلى سورية، استعنّا أحياناً بأفراد فرقة الاستطلاع السورية التي كانت لدينا في قلعة الشقيف، فكان بعض ضباط وجنود الجيش السوري يتعاونون معنا في هذا الموضوع، وأحياناً أُخرى كنا نستعين بمرافقي أبو عمار أو أبو جهاد عندما يكونون في طريقهم إلى الشام [....]. كنا نستعين بوسائل وعدة طرق، أو بمخزون الحركة داخل سورية. وفي إحدى المراحل تم إعداد دورية بقيادة الأخ عدنان أبو جابر والأخ عزيز، وفعلاً تم تدريبهما وتهيئتهما، والأخ عدنان أبو جابر ساهم في تدريب أغلبية كوادر الكتيبة في إبان مراحل تأسيسها. عبر عدنان وعزيز نهر الأردن إلى الأرض المحتلة حيث استقبلتهم خلايا موجودة في الأرض المحتلة [....]، وبقيا [مع آخرين] في منطقة الخليل أكثر من عام، ونفذوا العملية المعروفة باسم "عملية دبّويا" داخل الخليل. وبعد هذه العملية مباشرة قام الإسرائيليون بإبعاد رؤساء البلديات المنتخبين في الضفة الغربية: فهد القواسمة والشيخ رجب التميمي ومحمد ملحم، وتشاء الصدف أن يُبعَد هؤلاء إلى جسر القعقعية في الجنوب اللبناني حيث استقبلهم الشهيد مروان كيالي، كأن الإسرائيليين يقولون أنتم أرسلتم لنا هدية ونحن، في المقابل، نرسل لكم هدية!
الذهاب إلى الأرض المحتلة وإقامة قواعد ارتكازية، كان هاجساً دائماً في ذهن حمدي وأبو حسن، وكان الشعار الدائم داخل الكتيبة أن المناضل الأفضل، والكادر الأفضل والأصلب، والأكثر لياقة وقدرة، هو الذي يهيئ نفسه للذهاب إلى الأرض المحتلة، ومن أجل ذلك جرى إعداد مجموعة كبيرة من الإخوان، حتى علي أبو طوق كان من الذين أُعدّوا في فترة من الفترات كي ينزلوا إلى الأرض المحتلة، وهو ذهب لهذه الغاية إلى الأردن عبر سورية، وبقي فترة فيها تمهيداً للعبور إلى الأرض المحتلة، لكن الأوضاع لم تسمح. وفي أثناء وجودنا في الجنوب أرسلنا مجموعات أُخرى من الإخوان خلال الفترة 1978 ـ 1982، وأرسلنا من الكتيبة دورية ثانية كان فيها الشهيد أبو فتحي الذي استشهد في الانتفاضة الثانية على يد الصهيونيين بعد أن أسس "كتائب شهداء اقصى" وقادها في منطقة الخليل، والأخ أبو العز، وهما عبرا النهر مع أخ ثالث، واشتبكوا مع القوات الإسرائيلية في منطقة طوباس وأصيبوا بجروح وتم أسرهم بعد المعركة، ثم أُفرج عنهم لاحقاً في تبادل للأسرى. وفي وقت آخر عبر الشهيد أبو خلدون بعد صراع مع النهر إلى منطقة رام الله.
وجرت محاولات كثيرة لتنفيذ عمليات نوعية، غير العمليات اليومية كتفجير في زاوية أو شارع أو سينما؛ عمليات عدة ذات طابع نوعي أهمها على ما أعتقد في تلك المرحلة اثنتان:
العملية الأولى كانت عملية الأخت عطاف عليان التي تم الإعداد لها طويلاً، وكانت تستهدف نسف مقر رئاسة الحكومة الإسرائيلية؛ وجرى تدريب الكادر تدريباً عالياً في أماكن بعيدة، وتم تجهيز الأخت عطاف عليان لنقل متفجرات كي توضع في السيارة، وتفصيل زي عسكري لعطاف، وهي مُحَجَّبة. وقد حصل الإخوان على فتوى من أحد رجال الدين كي تستطيع أن ترتدي لباس المجندات الإسرائيليات، وهي ثياب قصيرة ومن غير حجاب، وتقود السيارة وتدخل إلى مقر الحكومة الإسرائيلية. طبعاً كُشفت هذه العملية في لحظاتها الأخيرة بعد أن تم تجهيز السيارة، وأعتقد أن سبب ذلك هو رغبة أحد المنفذين بزيادة كمية المتفجرات في السيارة، فقرر أن يحضر قديفتَي مدفعية من مخلفات الحروب السابقة، فحدث اختراق. طبعاً هذه العملية ولّدت رعباً كبيراً داخل الكيان الصهيوني، إذ قبل ساعات من تنفيدها يتم اكتشاف سيارة مجهزة بالمتفجرات، وشخص جاهز لأن يقودها وعلى معرفة بأدق التفصيلات: كيف يجتاز الحواجز الأمنية ويدخل إلى مقر رئاسة الحكومة. وأنا أذكر أن أبو جهاد أخبرنا وهو يبتسم أن الأخ أبو عمار قال له: هل تعلم أن هؤلاء المجانين كانوا يريدون أن ينسفوا مقر الحكومة الإسرائيلية؟! طبعاً كان ذلك خرقاً لخطوط حمر وسقوف تفاهمات وحمايات دولية. إذ حدث ذلك بعد الانتفاضة الأولى، وقبل اتفاق أوسلو [....]. اعتُقلت عطاف عليان والمهندس كامل الزهيري الذي كان يشرف على العملية، وبقيا فترة في السجن. وقد أُطلقا بعد ذلك بعملية تبادل الأسرى التي تمت نتيجة أسر الجنود الثمانية.
العملية الثانية كانت عملية حائط البراق لمجموعة من شباب القدس. فمن المعروف أنه عندما تنتهي الوحدات الخاصة الإسرائيلية من دورات التدريب، يذهب أفرادها، كنوع من التقليد، كي يقسموا يمين الولاء على حائط البراق المسمّى عندهم حائط المبكى. تضمّن التخطيط للعملية أن يجري إلقاء قنابل يدوية على الجنود الإسرائيليين الذين يقسمون اليمين [....]، وتم تنفيد العملية وأُرسل بيان في شأنها إلى وكالة الصحافة الفرنسية في القدس، وقد اعترف الإسرائيليون بخسائر كبيرة، وهذا أربكهم كثيراً، ولم تكن العملية سهلة.
العمليتان حدثتا خلال الفترة نفسها تقريباً، وكانتا بمثابة إعلان بدء مشروع "سرايا الجهاد"، الأمر الذي جعل وجود حمدي وأبو حسن ثقيلاً في الأردن، حتى على السلطات الأردنية. فقرر الإخوان أنه يجب أن يغادرا الأردن إلى سورية ومنها إلى لبنان، ومن هناك إلى أي مكان في الدنيا. وفعلاً تحرك أبو حسن مع الأخ هارون وعبرا الحدود، وشاءت المصادفة أن تعتقلهما وحدة هجانة مع وحدة مكافحة التهريب في الجانب السوري من الحدود، وأمضى أبو حسن فترة 10 أشهر في السجن في سورية قبل أن يُطلَق ويغادر إلى الخارج. وتعرّض خلال فترة اعتقاله لتعذيب شديد داخل السجن. بعد هذا الحادث بفترة عاش حمدي في عمّان عاماً كاملاً، متخفياً وحذراً جداً. مسؤول أمني أردني قال لحمدي: أنتم بعد قصة عطاف عليان والبراق رؤوسكم مطلوبة، الإسرائيليون يريدونكم ونحن لا نقدر أن نتحمّل مسؤولية أن يتم اغتيالك في عمّان، ولا نريد أن نأخد إجراءات ضدك ونسجنك كي نحميك، لأن هذا يرتب عليك وعلينا التزامات كثيرة. نريد منك أن تغادر البلد.
غادر حمدي إلى تونس وكذلك أبو حسن الذي كان قد أُفرج عنه، واجتمعا هناك بالشهيد أبو جهاد، وكانت العلاقة مع الشهيد أبو جهاد تمر بمراحل مد وجزر فتنقطع أحياناً، وتزدهر أحياناً أُخرى. كان اللقاء صريحاً هذه المرة، والجميع لديه تصميم على مزيد من تصعيد المواجهة ضد العدو، ومعروف أن علاقة أبو جهاد بأبو عمار في تلك الفترة كانت تمر بأزمة على خلفية الاستعدادات لمؤتمر الحركة، ودعم أبو عمار لما سمّاه القطاع الغربي لجيش التحرير. وجرى تقويم لإدارة العمل كلها داخل الأرض المحتلة، وكان هذا اللقاء من أنجح اللقاءات، وتم بقلوب مفتوحة تماماً، واتفق الجميع على إعادة هيكلة القطاع الغربي لحركة "فتح"، على أن يعود أبو حسن مرة أُخرى ليشغل الموقع الذي كان يشغله أيام الشهيد كمال عدوان كضابط عمليات للقطاع الغربي، وعلى إنشاء غرفة عمليات موحدة يتولاها أبو حسن. وكان مقرراً أن يذهب أبو حسن وحمدي في جولة لترتيب الاتصال بمناطق متعددة من العالم، ثم يعودان مباشرة إلى تونس للبدء بالإجراءات التي اتفقا عليها مع الشهيد أبو جهاد.

مشروع سرايا الجهاد
س: هنا نأتي إلى قصة سرايا الجهاد. الإخوان عندما جلسوا مع أبو جهاد واتفقوا على إعادة هيكلة القطاع الغربي، هل كانت السرايا موجودة؟
ج: نعم السرايا كانت موجودة، وقد أُعلن باسمها تنفيذُ عدة عمليات منها ما أشرت إليه. وفي الحقيقة كان أبو جهاد يعتبر موضوع الكفاح المسلح في فلسطين وضد العدو الصهيوني موضوعاً مقدساً، ولا يتردد على الإطلاق في أن يفتح أبواباً واسعة لمَن يستطيع تقديم جهد في هذا المجال. ثم إن اخوة حافظوا على اتصالهم وتطويرهم لعمل المجموعات الفتحاوية التي كانت على اتصال معهم، فضلاً عن قيادتهم عمل السرايا. وقد وُلدت فكرة سرايا الجهاد وتقدمت منذ سنة 1983، ونمت خلال فترة الانتفاضة الأولى، وبعد ذلك في بعض العمليات العسكرية. وأذكر في هذا السياق تجربة قواعد الشيوخ خلال الفترة 1968 ـ 1970 عندما جاء الإسلاميون وقالوا لـ "فتح" نريد أن نشارك في الكفاح المسلح، لكننا غير قادرين على أن نكون ضمن القواعد العامة لديكم، اِفرزوا لنا قاطعاً أو منطقة كي نجمع الناس بإشرافكم، وفعلاً تم إنشاء "وحدة الشيوخ" في ذلك الوقت، وقد أبلت بلاء حسناً في قتال العدو، ثم انحلّت بعد خروج "فتح" من الأردن في سنة 1970.
لكن في الثمانينيات شارك بعض كوادر هذه الوحدة مع أبو حسن وحمدي إلى جانب الجماعة الإسلامية في غزة، والتي عُرفت لاحقاً باسم "حركة الجهاد الإسلامي"، وأفراد وتنظيمات كان بينهم الشباب الذين هربوا من سجن غزة، وكانوا السبب في اندلاع الانتفاضة اولى. وأنا أتذكر تماماً الرسالة التي أرسلها مصباح الصوري إلى حمدي، والردّ عليها والسلاح الذي تم تأمينه لهم.
خرج الدكتور فتحي الشقاقي من السجن وأنشأ حركة الجهاد الإسلامي التي أصبحت حركة واضحة لها قيادتها العلنية المعروفة. لكن كادرهم العسكري كان يعمل قبل ذلك باسم السرايا، وحتى الكادرات الأولى لحركة "حماس" جرى تدريبها وتسليحها وتجهيزها على يد السرايا، لكن عندما أصبح هناك حركات إسلامية كاملة صارت هذه الحركات تقوم بالكفاح المسلح، ولا سيما "حماس" و"الجهاد"، ولم يعد هناك داعٍ أو مبرر لاستمرار سرايا الجهاد، إلاّ إذا أردت أن تنشئ تنظيماً إسلامياً ثالثاً، وهذه الفكرة لم تكن واردة من حيث الأساس، فضلاً عن أن استشهاد حمدي وأبو حسن ومروان ساهم في جعل الأمور تتوقف عند هذا الحد.

س: ماذا حل بعد استشهاد أبو حسن وحمدي ومروان في قبرص، واستشهاد أبو جهاد في تونس؟
ج: لا شك في أن استشهاد حمدي وأبو حسن ومروان كان له تأثير كبير في مجمل العمل، إلاّ إن عدداً من الإخوة  مثل جهاد العمري ومروان زلوم وميسرة ومجموعة أُخرى من الشباب تابعوا المسيرة، وقاموا بتشكيل كتائب شهداء اقصى في الضفة وغزة. لقد كان لدينا وجهة نظر خلال فترة الانتفاضة اولى وهي أن يكون التركيز على أشكال المواجهة الشعبية، على أن يقتصر العمل المسلح على الردّ على بعض جرائم الإسرائيليين بعيداً عن الفاعليات الشعبية. وطبعاً خلال فترة الانتفاضة ركزنا بشكل أساسي أيضاً على عملية التسليح في الداخل، وعلى نقل السلاح والمتفجرات، علاوة على بعض العمليات المحدودة داخل قطاع غزة أو في الضفة الغربية.
في التسعينيات، ولا سيما بعد حرب الخليج ومؤتمر مدريد واتفاق أوسلو وتراجع دور فصائل منظمة التحرير عن المشاركة في المقاومة المسلحة وبعد بروز المقاومة الإسلامية في لبنان وفي فلسطين، "حماس" والجهاد، دخلت اوضاع في منطقتنا والعالم مرحلة جديدة مختلفة نوعياً عن مرحلة السبعينيات والثمانينيات، فكان ذلك سبباً في إحداث تغيير في أشكال العمل بالنسبه إلى عدد كبير من الإخوة الذين حافظوا على أشكال متعددة من الترابط والاتصال من دون إخلال في اتجاه البوصلة التي تأسس عليها التيار أو الكتيبة أو السرايا.
*قائد "الكتيبة الطلابية" في حركة "فتح".
أجرى المقابلة: إلياس خوري وميشال نوفل

قلعة الشقيف معركة الكتيبة الطلابية

السبت 31 كانون الثاني (يناير) 2015
قلعة الشقيف أقامها الصليبيون على بعد 15كم جنوب شرق النبطية، وقد حررها صلاح الدين الأيوبي عام 1194م.
في شهر آب 1980، كلفت قيادة الجيش «الإسرائيلي» لواء جولاني بتنفيذ هجوم على منطقة قلعة الشقيف، هادفة من ذلك إلى اختيار قوة المقاومة ونقل المعركة على مراكز المقاومة الفلسطينية وإجبارها على البقاء في حالة دفاع وتخريب أسلحتها بعيدة المدى، كما تضمنت الأهداف القضاء على أكبر عدد ممكن من أفراد المقاومة لإجبار القيادة الفلسطينية على التراجع والتخلي عن مطالبها.
تم تدريب لواء جولاني في مواقع مشابهة لقلعة الشقيف في الجولان السوري المحتل في 12/2/1980 بإشراف رئيس أركان الجيش.
شارك في الهجوم على القلعة وحدات لواء جولاني وسريتا مظليين وسرب طائرات هليوكبتر ووحدات من المدفعية والمدرعات، كل ذلك بدعم من القوات الجوية. قلعة الشقيفبعدما لاحظ المقاومون تحركات لوحدات من الجيش «الإسرائيلي» ليلة 18-19/8، أمرت القيادة الفلسطينية جميع تشكيلاتها في كفر تبنيت وقلعة الشقيف وحرش النبي طاهر وقصر الأسعد والرادار ويحمر وزوطر الشرقية وجميع مواقع المقاومة في منطقة النبطية بالاستعداد لصد الهجوم.
تقدم لواء جولاني، فضبطت المقاومة نفسها إلى أن أصبح الجنود الإسرائيليون على بعد 200م من القلعة فانصبت عليهم النيران بغزاره، وبدأت مدفعية المقاومة بضرب محاور تحرك الأعداء، فمنت الوحدة المهاجمة خسائر كبيرة، فبدأت مدفعية العدو الثقيلة قصفاً مركزاً على قلعة الشقيف لتغطية انسحاب قواتها ونقل الجرحى.
قررت قيادة المقاومة القيام بهجوم معاكس لإجبار« الإسرائيليين» على الانسحاب قبل أن تتمكن قيادته من إرسال نجده، فتكمنت قوة احتياطية من الوصول إلى مدخل أرنون صباح 19/ آب، وكان الاشتباك مستمراً، فاستطاعت القوة إجبار العدو على الانسحاب، وحدث هذا في أكثر من مكان بنفس الطريقة، وفي أثناء انسحاب القوات« الإسرائيلية» هبطت طائرات الهيلوكبتر لنقل الجرحى، لكن المقاومة أخذت تطارد العدو المنسحب وفرضت عليهم حصاراً على جسر الخردلي، ولم يستطع الإسرائيليون الإفلات إلا بعد تدخل قواتهم الجوية.
وربما أن معركة قلعة الشقيف من المعارك القليلة في التاريخ القديم والحديث التي استطاعت فيها قوة تعادل سرية من فدائيي الكتيبة الطلابية قوات الجرمق أن ترد هجوماً يشنه لواء من جيش نظامي جيد التسلح والتدريب، ومدعوم بالمظليين والمدفعية والقوات الجوية.
وقد تم تقدير نسبة القوى المدافعية للقوى المهاجمة في هذه المعركة 1/15.
روايات الصهاينة عن المعركة
في العام 1982 وقف رئيس وزراء العدو (مناحيم بيغن) الى جانب وزير حربه آنذاك (ارييل شارون) الذي كان يتحدث عن احد اكبر انجازات الحرب باحتلال القلعة، وهي التي شهدت اعنف المعارك أبان الاجتياح «الاسرائيلي».... ولم تسقط بأيدي قوات الاحتلال الا بعد استشهاد كامل لكل المقاتلين... . المشهد الذي عرضه تلفزيون العدو آنذاك بمناسبة اعلان رئيس وزراء العدو حينها نية« اسرائيل» الانسحاب من لبنان ينتقل مباشرة الى عرض درامي لما آلت اليه حال الجنود الإسرائيلين بعد ثمانية عشر عاما على احتلال القلعة!!!!!
العرض يستكمل بشهادات من الجنود الصهاينة أنفســهم .... الذين عاشوا جحيم المواجهة لمحاولة السيطره على القلعة، التي باتت تشكل حينهــا مؤشر السيطرة الاخذة بالتآكل مع تزايد ضخامة التحصينات والانفاق داخل القلعة، التي تحمي الجنود من الحمم الصاروخية التي كان يطلقها مقاتلين الثورة الفلسطينيه بشكل يومي... ما حول القلعة الى سجن كبير للجنود الصهاينة.
وقال (ليرون نحماد) وهومن الجنود الذين خدموا في قلعة الشقيف..... هذا مكان ملعون بالمطلق... لأن الفدائيين يجيدون الاصابة... وهو ملعون لأنك قد تفقد رفاقك في كل لحظة.... وهو مكان ملعون بسببنا لاننا اتينا الى هذا المكان!!! وقائد المنطقة قال لنا امامكم هدفان احدهما قتل مقاتلين فتح والاخر البقاء على قيد الحياة لكن عندما تسمع صوت انطلاق قذيفة الهاون عليك انتظار سبع عشرة ثانية حتى تسقط وتشعر بالخوف الكبير وتدرك انك قد تموت’. فيما قال جندي آخر’ تتساقط عليك قذائف الهاون وتبدأ برؤية خطوط النار تتطاير من فوقك وتعلم ان كل اصابة قد تطيح بجزء من جسدك وترى اشخاص يتفجرون ويصرخون في المقابل لا نطلق طلقة واحدة’.
أما الامر الذي زاد من رعب جنود العدو وحيرتهم، هو انهم كانوا يواجهون عدوا غير مرئي، ويمتلك زمام المبادرة وتحولت مهمتهم الى مهمة حماية انفسهم فيما يروي بعض الجنود لحظات الجحيم اثناء تعرضهم للقصف...... وقال عيدان كوريت الذي خدم قلعة شيقف’ الامر المخيف حقا هو أن العدو الذي لم نراه...... فلم نر مقاتلين فتح ولم نعرف كيف يتنقلون وكيف يهاجمون !!!’ وقال آخر’ بدأت بالركض نحو النقطة وكان ذلك الركض الاصعب في حياتي حيث شعرت انني احمل خمسة اطنان وان قدماي تحولتا إلى ما يشبه مادة الباطون ولم اتمكن من التحرك.... واضاف آخر النقطة كانت محترقة ومتفحمة ويتصاعد منها الدخان ورائحة الجلد المحترق والكثير من الغبار حيث لا ترى شيئا وتصعد السلم وتعلو ثم تسقط ثم تعلو وتسقط وتستمر بالركض لترى الجنود مصابين وممددين في الخنادق.’
هذه الحرب كالمصيدة وقد وقعنا فيها كفئران صغيرة!!!!!
في قلعة الشقيف فقد الفلسطينيون 30 مقاتلاً لكننا فقدنا خمسة أضعاف هذا العدد.
معركة الشقيف أذهلت بيغن وشارون ورئيس الأركان
فقدنا في معارك الشقيف خيرة ضباطنا وجنودنا.
لقد أصبت بالعديد من الشظايا التي اخترقت جسدي بعد أن أصيبت دبابتي في النبطية ... وقد اضطر الأطباء هنا إلى بتر ساقي اليسرى لإنقاذ حياتي ... وقد تأثر بصري كثيراً يا له من ثمن باهظ.
في أعقاب المناورات والتدريبات العسكرية المكثفة التي جرت في مكان ما من إسرائيل استعداداً لغزو لبنان، وخلال المشاورات التي أجريتها مع زملاء لي ومع جهات عسكرية عليا .. فقد ساد الانطباع أو لنقل بأنه كان هناك إجماع على أن هذه الحرب التي سوف نشعلها في الشمال قد تستغرق حتى 72 ساعة فقط هذا إذا ضمنوا لنا عدم تدخل السوريين في هذه الحرب.
حينما كنا في طريقنا لغزو لبنان كنا على ثقة أو ربما قناعة تامة بأن دباباتنا سوف تتابع سيرها حتى بيروت دون أن تضطر للتوقف لأننا اعتقدنا بالواقع أنها سوف تسير فوق أنقاض.
قلعة الشقيف مثلاً ... 13 طائرة إسرائيلية قامت بقصف مكثف لهذه القلعة وكنا نعتقد بأن أطنان القنابل التي ألقيت عليها لم تدمرها فقط وإنما مسحتها عن وجه الأرض.
ولكن حينما اقتربنا من هذه القلعة وكانت أول موقع فلسطيني حصين نواجهه في الجنوب اللبناني اتضح لنا أنها ما تزال على حالها وأن أحداً من المقاتلين الفلسطينيين فيها لم يصب بأذى نتيجة لكل ذلك القصف الجوي الطويل.
ولقد كنت أول من قال: ربما كانت طائراتنا تلقي بحمولاتها بعيداً عن القلعة.
إن لي بين الضباط الذين سقطوا في معارك قلعة الشقيف العديد من الأصدقاء الحقيقين الذين كنت أعتز بهم .. العقيد الركن افنير شماعيا والمقدم جوني هدنيك والمقدم بتسائيل مزراحي والرائد يفتاح بن حاسو وآخرين.
لقد دخلنا الحرب بـ 28 ألف جندي من القوات النظامية معظمهم من قوات غولاني والمظليين لكن العدد ارتفع خلال اليومين الأولين لهذه الحرب إلى 83 ألف جندي.
كما وأنني أشك في أنه قد بقي لدينا سلاح متطور واحد لم نستخدمه في هذه الحرب إلا إذا كان الحديث عن سلاح نووي.
لقد أشارت التقارير والمعلومات التي قدمها الجنوال يهو شواع سيفي رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية واستعرضناها جميعاً إلى:
أنهم ’ أي الفلسطينيين ’ مجرد قوة صغيرة غير مدربة جيداً غير منظمة ضعيفة ، وبأن أسلحتهم الثقيلة محدودة وغير متطورة، وبأن الخلافات الداخلية المستمرة بينهم والتي تؤدي غالباً إلى سقوط قتل وجرحى تزيد من ضعفهم وتصدعهم...،واستناداً إلى تلك التقارير وضعت خطط الحرب. منذ الساعات الأولى لاندلاع الحرب تجمعت لدي قناعة مفادها أن جميع تقارير الجنرال سيفي وحتى تلك التي دعمت بالصور التي التقطت بواسطة طائرات الاستطلاع لم تكن دقيقة أبداً.
ا نمــوذج متواضع بما جرى فى قلعة شقيف وبشهاده العدو نفســه قبل الصديق وكيف تمكن هؤلاء الفدائيين محدودى العدد والعتاد من تلقين العدو دروسا فى كيفية المواجهات العسكريه إنهم أبطال عاصفة القتال الذين إستطاعوا تمريغ أنف العدو فى وحل ومستنقعات لبنان فالتحيه كل التحيه لهؤلاء الأبطال الذين سطروا أروع ملاحم البطوله والنضال فى وحهه هذا العدو الغاصب الذى كان مدججا بأحدث ما توصلت اليه الترسانه الأمريكيه.
معركة قلعة الشقيف لبنان 1982 وبحسب رواية ضابط الوحدة.الصهيونية (لم يبقَ من قواتي (90 جندياً، 7 ضباط) سوى سبعة جنود فقط كما دُمِّرت الدبابات والآليات المدرعة كان عدد الفلسطينيين 33 فرداً من قوات فتح ولم نأسر أي فرد منهم لأنهم قاتلوا حتى الموت ولم يستسلم أحد).

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة